الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر [الحد ] الذي يجب أن يجلد شارب الخمر من العنب وغير العنب

                                                                                                                                                                              9268 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : أخبرنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالنعال والجريد ، ثم جلد أبو بكر أربعين ، فلما كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى [فاستشار ] الناس فقال : ما ترون في حد الخمر ؟ فقال عبد الرحمن : نرى أن (يجعل) كأخف الحدود . قال : فجلد عمر ثمانين .

                                                                                                                                                                              9269 - حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا قتادة ، عن أنس ، أن رجلا رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يعني قد سكر - فأمر قريبا من عشرين رجلا ، فضربه كل رجل منهم ضربتين بالجريد والنعال . قال : ورفع إلى أبي بكر رجل قد سكر فجلده أربعين ، ورفع إلى عمر رجل قد سكر فضربه . قال : واستشار عمر الناس في جلد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف : كأخف الحدود . قال : فجلد عمر ثمانين .

                                                                                                                                                                              9270 - حدثنا علي بن عبد الرحمن بن المغيرة قال : حدثنا ابن أبي [ ص: 19 ] مريم ، قال : أخبرنا نافع بن يزيد ، قال : حدثني ابن الهاد ، أن محمد بن إبراهيم حدثه ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشارب فقال : "اضربوه " ، فمنهم الضارب بيده وثوبه ونعله ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "بكتوه " ، فأقبلوا على الرجل يقولون له : ما اتقيت الله ؟ وما خشيت الله ؟! ولا استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرسلوه " ، فلما أدبر قالوا : اللهم العنه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تلعنوه ولا تعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا : اللهم اغفر له وارحمه " .

                                                                                                                                                                              9271 - حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا أسامة بن زيد ، قال : حدثنا ابن شهاب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أزهر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يتخلل الناس ، يسأل عن منزل خالد بن الوليد ، فأتي بسكران ، فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم ، وحثى رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب ، ثم أتي أبو بكر بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضربه أربعين .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن عاد فاجلدوه" فدل هذا الحديث على أن شارب الخمر يجب [عليه الحد ] سكر أو لم يسكر ، لقوله "من شرب [ ص: 20 ] الخمر فاجلدوه" موجود بين ذلك في ظاهر الحديث ، ولا نعلم في شيء من الأخبار أنه أمر أن يضرب شارب الخمر ، إلا ما كان من فعلهم ، حيث أمر بضرب السكران على ما جاءت به الأخبار من أفعالهم ، وليس في شيء من الأخبار التي رويناها ذكر ما يضرب به السكران من سوط وغيره ، إلا ما روي أنهم ضربوه بالنعال والجريد والأيدي .

                                                                                                                                                                              واختلف أهل العلم فيما يجب على شارب الخمر من الجلد ، فقال أكثر الفقهاء : يضرب ثمانين ، وفي بعض الأخبار التي رويناها ما روي عن أبي بكر وعمر من عدد ضرب السكران . وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال : حد النبيذ إذا سكر ثمانون .

                                                                                                                                                                              9272 - حدثنا يحيى بن محمد ، قال : حدثنا أحمد بن يونس ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن حجاج ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن الحارث الأعور ، عن علي قال : حد الخمر ثمانون ، وحد السكران إذا سكر ثمانون .

                                                                                                                                                                              وكان مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والنعمان ، ومن تبعهم يرون الجلد في الخمر ثمانين ، وكان الشافعي يقول : وإذا ضرب في خمر أو سكر من شراب بنعلين ، أو طرف ثوب ، أو يد ، أو ما أشبهها ضربا يحيط العلم أنه لا يبلغ أربعين ، أو يبلغها ولا يجاوزها ، فمات من ذلك ، فالحق قتله ، وما قلت : الحق قتله فلا عقل فيه ، ولا قود ، [ ص: 21 ] ولا كفارة على الإمام ، وذكر قصة أبي بكر . قال : وإن ضربه أربعين أو أقل منها بسوط ، أو ضربه أكثر من أربعين بالنعال أو غير ذلك فمات ، فديته على عاقلة الإمام دون بيت المال ، وذكر حديث علي أنه قال : ما أحد يموت في حد من الحدود ، فأجد في نفسي منه شيئا إلا الذي يموت في حد الخمر فإنه شيء أحدثناه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن مات فديته إما قال : في بيت المال ، وإما على عاقلة الإمام .

                                                                                                                                                                              واختلفوا في وجوب الحد على من شرب قليل ما يسكر كثيره ، فقالت طائفة : عليه الحد ، فممن قال : عليه الحد ، الحسن البصري قال : من ذاق الخمر فعليه الحد ، وقال : يجلد السكران من النبيذ .

                                                                                                                                                                              وممن رأى أن يجلد الشارب وإن لم يسكر : عمر بن عبد العزيز ، وعروة بن الزبير ، وقتادة ، وكان مالك والأوزاعي يقولان : إذا شربوا شرابا جميعا ، جلد من سكر منهم ومن لم يسكر الحد تاما .

                                                                                                                                                                              وقال الشافعي : كل شراب أسكر كثيره ، فقليله حرام ، وفيه الحد ، وهذا قول أحمد بن حنبل . وكان أبو ثور يقول : المسكر حرام قليله وكثيره .

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثان : كان عطاء يقول : لا يضرب في شيء من الشراب حتى [ ص: 22 ] يسكر إلا الخمر . وروي عن أبي وائل والنخعي أنهما قالا : لا يجلد السكران من النبيذ حدا .

                                                                                                                                                                              وكان أبو ثور يقول : من كان المسكر عنده (حراما) وشرب منه شيئا حددناه ، ومن كان متأولا مخطئا في تأويله ، فشربه على خبر قلده ضعيفا ، أو تبع أقواما ، لم يكن حد ، وذلك أنا [لا ] نحد إلا من فسق ، وإنما الحد على من علمه ، وأما من أتى الشيء وهو يرى أنه حلال ، فلا حد عليه .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد اعتل بعض أصحابه في إسقاط الحد عن من كان جاهلا بتحريم المسكر إذا شربه ، قال : يقال لمن أوجب على شارب المسكر الحد : ما تقول في رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فوطئها ، ثم علم أنها أخته ؟ قال : فمن قوله : أن لا حد عليه . يقال له : ولم ؟ وقد وطئ فرجا محرما ؟! فمن قوله : لأنه كان جاهلا ، يحسب أن وطأها له مباح . قيل له : فما الفرق بين واطئ الجارية يحسب أن وطأها مباح له ، وبين شارب المسكر وهو يحسب أن شربها مباح له ، ولا يفرق بينهما بفرق يلزم .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : وقد احتج بعض من يوجب [جلد ] الشارب للخمر والسكران ثمانين [بأن جلد السكران ] عقوبة ، وحد القذف عقوبة ، [ ص: 23 ] فالذي يجب أن يضرب السكران أقل الحدود وهو ثمانون ، وقد (أمر) عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف بذلك بين المهاجرين والأنصار وتبعهم عليه عوام أهل العلم من علماء الأمصار ، ولا يجتمع أهل العلم على مثل هذا إلا بما تثبت الحجة به . والواجب أن يضرب السكران ثمانين بالسوط ، لأنهم قد أجمعوا أن حد الزنا والقذف إنما يجلد بالسوط ، والضرب الذي ضرب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم منسوخ بقوله : "إذا سكر الرجل فاجلدوه" واحتج بعض من خالف هذا القول فقال : الحدود لا تدرى من جهة القياس [والرأي ] ، إنما تؤخذ من جهة الأخبار ، وقد أمر الله - عز وجل - بجلد الزاني والقاذف ، فجلدهما يجب ، لأمر الله بذلك ، وقد أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسكران فلم يأمر فيه بحد معلوم ، بل أمرهم أن يضربوه فضربوه بما في أيديهم من الجريد والنعال وبأيديهم ، ولو كان في حد السكران حد معلوم لأمر أن يضرب ذلك العدد ، وفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك دليل على أن ضرب الشارب ليس له حد معلوم ، وإنما ينكل به كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة أنه قال لهم بعد أن ضربوه بما ضربوه به : "بكتوه" فبكتوه ، وهذا كله من جهة التنكيل ، ومن الدليل على صحة هذا القول : أن أبا بكر الصديق لم يجلد السكران بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين ، وإنما فعل مثل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسول الله حضور غير منكرين عليه بما فعل ، ولا أخبروه عن رسول الله خلاف فعله ، وكذلك عمر بن الخطاب بعده حتى شاور حين [ ص: 24 ] كثر الشرب ، وفي مشاورته في ذلك دليل على أن لا حكم عنده في ذلك ، ولا عند من حضره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إذ لو كان عنده أو عند أصحابه عن رسول الله في ذلك لتبعوه وانتهوا إليه .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن علي بن أبي طالب أنه قال : لم يستنه النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يجب أن يفعل بالسكران ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ويضرب أقل ما قيل أنه ضرب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ويوقف على ما زاد على ذلك .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية