الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 183 ] الأصل الخامس في القياس

          ويشتمل على مقدمة وخمسة أبواب .

          أما المقدمة ففي تحقيق معنى القياس وبيان أركانه .

          أما القياس فهو في اللغة عبارة عن التقدير ، ومنه يقال : قست الأرض بالقصبة وقست الثوب بالذراع أي قدرته بذلك .

          وهو يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة ، فهو نسبة وإضافة بين شيئين ، ولهذا يقال : فلان يقاس بفلان ولا يقاس بفلان أي يساويه ولا يساويه .

          وأما في اصطلاح الأصوليين فهو منقسم إلى قياس العكس وقياس الطرد .

          أما قياس العكس فعبارة عن تحصيل نقيض حكم معلوم ما في غيره ; لافتراقهما [1] في علة الحكم ، وذلك كما لو قيل : لو لم يكن الصوم شرطا في الاعتكاف لما كان شرطا له عند نذره أن يعتكف صائما ، كالصلاة فإن الصلاة لما لم تكن شرطا في الاعتكاف لم تكن من شرطه إذا نذر أن يعتكف مصليا ، فالأصل هو الصلاة والفرع هو الصوم ، وحكم الصلاة أنها ليست شرطا في الاعتكاف ، والثابت في الصوم نقيضه ، وهو أنه شرط في الاعتكاف وقد افترقا في العلة [2] لأن العلة التي لأجلها لم تكن الصلاة شرطا في الاعتكاف أنها لم تكن شرطا فيه حالة النذر ، وهذه العلة غير موجودة في الصوم ; لأنه شرط في الاعتكاف حالة النذر إجماعا .

          [3] [ ص: 184 ] وأما قياس الطرد فقد قيل فيه عبارات غير مرضية لا بد من الإشارة إليها وإلى إبطالها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار فيه .

          فمنها قول بعضهم : إنه عبارة عن إصابة الحق وهو منتقض بإصابة الحق بالنص والإجماع ، فإنه على ما قيل وليس بقياس ، كيف وإن إصابة الحق فرع للقياس وحكم له ، وحكم القياس لا يكون هو القياس .

          ومنها قول بعضهم : إنه بذل الجهد في استخراج الحق ، وهو أيضا باطل بما أبطلنا به الحد الذي قبله .

          كيف وإن بذل الجهد إنما هو منبئ عن حال القائس لا عن نفس القياس .

          وقد قيل في إبطاله أنه غير منعكس لوجود المحدود دون الحد ، وذلك أن من رأى حكما منصوصا عليه وعلى علته وكانت علته مما يشهد الحس بها في الفرع فإن ذلك مقتضى تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بطريق القياس ، وإن لم يوجد فيه بذل جهد في استخراج الحق فقد وجد المحدود دون حده وليس بحق ، فإنه وإن لم يلحق المكلف بذل جهد في معرفة الحكم وعلته لكونهما منصوصين ولا في معرفة وجود العلة في الفرع لكونها محسة فيه ، فلا بد من الاجتهاد في معرفة صحة النص إن كان آحادا وإن كان متواترا ، ولا بد من البحث عن كونه منسوخا أم لا ، وإن لم يكن منسوخا فلا بد من النظر في الأصل هل للعلة فيه معارض أو لا ؟ وإن لم يكن لها معارض في الأصل فلا بد من النظر في الفرع هل وجد فيه مانع أو فات شرط أو لا ؟ ثم وإن قدر انتفاء الاجتهاد مطلقا في الصورة المفروضة فلا نسلم تحقق القياس فيها بل الحكم إنما يثبت في الفرع على هذا التقدير بالاستدلال لا بالقياس على ما يأتي تحقيقه .

          ومنها قول بعضهم : إن القياس هو التشبيه ، ويلزم عليه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار ، وفي بعض صفات الكيفيات كالألوان والطعوم ونحوها [ ص: 185 ] قياسا شرعيا ; إذ الكلام إنما هو في حد القياس في اصطلاح المتشرعين وليس كذلك .

          ومنها قول بعضهم : القياس هو الدليل الموصل إلى الحق ، وهو باطل بالنص والإجماع .

          ومنهم من قال : هو العلم الواقع بالمعلوم عن نظر ، وهو أيضا باطل بالعلم الحاصل بالنظر في دلالة النص والإجماع .

          كيف وإن العلم غير حاصل من القياس ، فإنه لا يفيد غير الظن ، وإن كان حاصلا منه فهو ثمرة القياس فلا يكون هو القياس .

          وقال أبو هاشم : إنه عبارة عن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه ، وهو باطل من وجهين :

          الأول : أنه غير جامع ; لأنه يخرج منه القياس الذي فرعه معدوم ممتنع لذاته فإنه ليس بشيء .

          الثاني : أن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع فلا يكون قياسا ، وإن كان بجامع فيكون قياسا وليس في لفظه ما يدل على الجامع ، فكان لفظه عاما للقياس ولما ليس بقياس .

          وقال القاضي عبد الجبار : إنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه ، وهو باطل بما أبطلنا به حد أبي هاشم في الوجه الأول .

          وقال أبو الحسين البصري : القياس تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد .

          وقد أورد على نفسه في ذلك إشكالا وأجاب عنه ، أما الإشكال فهو أن الفقهاء يسمون قياس العكس قياسا ، وليس هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم ، بل هو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علة الحكم كما سبق تحقيقه .

          وأما الجواب فحاصله أن تسمية قياس العكس قياسا إنما كان بطريق المجاز لفوات خاصية القياس فيه ، وهو إلحاق الفرع بالأصل في حكمه لما بينهما من المشابهة .

          ويمكن أن يقال في جوابه أيضا : إنه وإن كان قياسا حقيقة غير أن اسم القياس مشترك بين قياس الطرد و قياس العكس ، فتحديد أحدهما [ ص: 186 ] بخاصيته لا ينتقض بالمسمى الآخر المخالف له في خاصيته وإن كان مسمى باسمه .

          ولهذا فإنه لو حدت العين بحد يخصها لا ينتقض بالعين الجارية المخالفة لها في حدها وإن اشتركا في الاسم ، والمحدود هاهنا إنما هو قياس الطرد المخالف في حقيقته لقياس العكس ، غير أن ما ذكروه من الحد مدخول من وجهين :

          الأول : أن قوله : تحصيل حكم الأصل في الفرع مشعر بتحصيل عين حكم الأصل في الفرع ، وهو ممتنع فكان من حقه أن يقول : مثل حكم الأصل في الفرع .

          الثاني : أن تحصيل حكم الأصل في الفرع هو حكم الفرع ونتيجة القياس ، ونتيجة الشيء لا تكون هي نفس ذلك الشيء ، فكان الأولى أن يقول : القياس هو اشتباه الفرع والأصل في علة حكم الأصل في نظر المجتهد على وجه يستلزم تحصيل الحكم في الفرع .

          وقال القاضي أبو بكر : [4] القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة لهما أو نفيهما عنهما ، وقد وافقه عليه أكثر أصحابنا ، وهو مشتمل على خمسة قيود :

          الأول : قوله : حمل معلوم على معلوم .

          الثاني : قوله : في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما .

          الثالث : قوله : بناء على جامع بينهما .

          الرابع : قوله : من إثبات حكم أو صفة لهما .

          الخامس : قوله : أو نفيه عنهما .

          أما القيد الأول فيستدعي بيان معنى الحمل ، وبيان فائدة إطلاق لفظ المعلوم وفائدة حمل المعلوم على المعلوم .

          أما الحمل فمعناه مشاركة أحد المعلومين للآخر في حكمه ، وإنما أطلق لفظ المعلوم لأنه ربما كانت صورة المحمول والمحمول عليه عدمية ، وربما كانت وجودية ، فلفظ المعلوم يكون شاملا لهما ، فإنه لو أطلق لفظ الموجود لخرج منه المعدوم ، ولو أطلق لفظ الشيء لاختص أيضا بالموجود على رأي أهل الحق .

          [ ص: 187 ] ولو قال : حمل فرع على أصل ، ربما أوهم اختصاصه بالموجود من جهة أن وصف أحدهما بكونه فرعا والآخر بكونه أصلا قد يظن أنه صفة وجودية ، والصفات الوجودية لا تكون صفة للمعدوم وإن لم يكن حقا ، فكان استعمال لفظ المعلوم أجمع وأمنع وأبعد عن الوهم الفاسد ، وإنما قال : حمل معلوم على معلوم لأن القياس يستدعي المقايسة ، وذلك لا يكون إلا بين شيئين ، ولأنه لولاه لكان إثبات الحكم أو نفيه في الفرع غير مستفاد من القياس ، أو كان معللا بعلة غير معتبرة فيكون بمجرد الرأي والتحكم ، وهو ممتنع .

          وأما القيد الثاني فإنما ذكره لأن حمل الفرع على الأصل قد بان أن معناه التشريك في الحكم ، وحكم الأصل وهو المحمول عليه قد يكون إثباتا وقد يكون نفيا ، وكانت عبارته بذلك أجمع للنفي والإثبات .

          وأما القيد الثالث : فإنما ذكره لأن القياس لا يتم إلا بالجامع بين الأصل والفرع ، وإلا كان حمل الفرع على الأصل في حكمه من غير دليل وهو ممتنع .

          وأما القيد الرابع : فإنما ذكره لأن الجامع بين الأصل والفرع قد يكون تارة حكما شرعيا ، كما لو قال في تحريم بيع الكلب : نجس فلا يجوز بيعه كالخنزير ، وقد يكون وصفا حقيقيا كما لو قال في النبيذ : مسكر ، فكان حراما كالخمر .

          وأما القيد الخامس فإنما ذكره لأن الجامع من الحكم أو الصفة قد يكون إثباتا كما ذكرناه من المثالين ، وقد يكون نفيا :

          إما في الحكم لو قال في الثوب النجس إذا غسل بالخل : غير طاهر فلا تصح الصلاة فيه كما لو غسله باللبن والمرق .

          وإما في الصفة فكما لو قال في الصبي : غير عاقل فلا يكلف كالمجنون .

          وقد أورد عليه تشكيكات لا بد في ذكرها والإشارة إلى دفعها :

          الإشكال الأول أن القول بحمل المعلوم على المعلوم إما أن يراد به إثبات مثل حكم أحدهما للآخر أو شيء آخر ، فإن كان الأول فالقول ثانيا في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما يكون تكرارا من غير فائدة .

          [ ص: 188 ] وإن كان الثاني فلا بد من بيانه ، كيف وإنه بتقدير أن يراد به شيء آخر فلا يجوز ذكره في تعريف القياس ; لأن ماهية القياس تتم بإثبات مثل حكم أحد المعلومين للآخر بأمر جامع ، فكان ذكر ذلك الشيء زائدا عما يحتاج إليه .

          الثاني : أن قوله في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما مشعر بأن الحكم في الأصل والفرع مثبت بالقياس ، وهو محال من جهة أن القياس فرع على ثبوت الحكم في الأصل ، فلو كان ثبوت الحكم في الأصل فرعا على القياس كان دورا .

          الثالث : أنه كما يثبت الحكم بالقياس فقد ثبتت الصفة أيضا بالقياس ، كقولنا في الباري تعالى : ( عالم ) فكان له علم كالشاهد ، فالقياس أعم من القياس الشرعي والعقلي ، وعند ذلك إما أن تكون الصفة مندرجة في الحكم أو لا تكون ، فإن كان الأول كان القول بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما تكرارا لكون الصفة أحد أقسام الحكم ، وإن كان الثاني كان التعريف ناقصا .

          الرابع : أن المعتبر في ماهية القياس الجامع من حيث هو جامع لأقسام الجامع ، وذلك أن ماهية القياس قد تنفك عن كل واحد من أقسامه بعينه ، وما تنفك عنه الماهية لا يكون داخلا في حدها ، وأيضا فإنه لو وجب في ذكر ماهية القياس ذكر أقسام الجامع فالحكم والصفة الجامعة أيضا كل واحد منهما منقسم إلى أقسام كثيرة لا تحصى ، فكان يجب استقصاؤها في الذكر وإلا كان الحد ناقصا وهو محال .

          الخامس : أن كلمة ( أو ) للترديد والشك ، والتحديد إنما هو للتعيين ، والترديد ينافي التعيين .

          السادس : أن القياس الفاسد قياس ، وهو غير داخل في هذا الحد ، وذلك لأن هذا القائل قد اعتبر في حده حصول الجامع ، ومهما حصل الجامع كان صحيحا ، فالفاسد الذي لم يحصل الجامع فيه في نفس الأمر لا يكون داخلا فيه ، فكان يجب أن يقال بأمر جامع في ظن المجتهد ، فإنه يعم القياس الفاسد الذي لم يحصل الجامع فيه في نفس الأمر .

          والجواب عن الإشكال الأول أن المراد بحمل المعلوم على المعلوم إنما هو التشريك بينهما في حكم أحدهما مطلقا .

          وقوله بعد ذلك ( في إثبات حكم أو نفيه ) إشارة إلى ذكر تفاصيل ذلك الحكم وأقسامه ، [ ص: 189 ] وهي زائدة على نفس التسوية في مفهوم الحكم ، فذكرها ثانيا لا يكون تكرارا .

          وعن الثاني ، وإن كان هو أقوى الإشكالات الواردة هاهنا - أن يقال : لا نسلم أن قول القائل : ( حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما ) مشعر بإثبات حكم الأصل بالقياس حتى يلزم منه الدور ; لأن القياس على ما علم مركب من الأصل ، والفرع ، وحكم الأصل ، والوصف الجامع بين الأصل والفرع ، والحكم في الأصل غير مستند في ثبوته ولا نفيه إلى مجموع هذه الأمور ; إذ هو غير متوقف على الفرع ولا على نفيه ، وإنما هو متوقف في ثبوته على الوصف الجامع ، وهو العلة حيث إن الشرع لم يثبت الحكم في الأصل إلا بناء عليه ، ولهذا قال الحاد في هذه : ( في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما ) والوصف الجامع ركن القياس ، وليس هو نفس القياس ، فلا يكون ثبوت الحكم في الأصل ولا نفيه بالقياس بل بالعلة ، وليست هي نفس القياس وإنما الثابت والمنفي بالقياس إنما هو حكم الفرع لا غير .

          [5] وعن الثالث من وجهين : الأول أنه مبني على تصور القياس في غير الشرعيات ، وهو غير مسلم على ما يأتي بيانه [6] وما ذكروه من المثال فقد أبطلنا صحة القياس فيه في " أبكار الأفكار " . الثاني وإن سلمنا تصور القياس في غير الشرعيات ، غير أن الكلام إنما وقع في تحديد القياس الشرعي في مصطلح أهل الشرع ، وذلك لا يكون إلا فيما كان حكم الأصل فيه شرعيا والصفة ليست حكما شرعيا ، فلا [ ص: 190 ] تكون مندرجة فيه ، وعلى هذا فخروج القياس العقلي عن الحد المذكور للقياس الشرعي لا يكون موجبا لنقصانه وقصوره .

          وعن الرابع : أنه وإن كان ذكر أقسام الجامع من الحكم والصفة وتعيين كل داخل في مفهوم القياس فذكره لم يكن لتوقف مفهوم القياس عليه حتى يقال بقصور التعريف ، بل للمبالغة في الكشف والإيضاح بذكر الأقسام ، وذلك مما لا يخل بالحد ولا يلزم من ذلك الاستقصاء بذكر باقي أقسام الحكم والصفة لعدم وجوبه .

          وعن الخامس : أن التحديد والتعريف قد تم بقولنا : ( حمل معلوم على معلوم بأمر جامع بينهما ) وما وقع فيه الترديد بحرف ( أو ) فقد بان التحديد [7] والتعريف غير متوقف عليه ، وإنما ذكر لزيادة البيان والإيضاح فلا يكون ذلك مانعا من تعريف المحدود ، كيف وإنه لا معنى للترديد سوى بيان صحة انقسام الحكم والجامع إلى ما قيل ، وصحة الانقسام من الصفات اللازمة التي لا ترديد فيها .

          وعن السادس : أن المطلوب إنما هو تحديد القياس الصحيح الشرعي ، والفاسد ليس من هذا القبيل فخروجه عن الحد لا يكون مبطلا له لكنه يرد عليه إشكال مشكل لا محيص عنه وهو أن الحكم في الفرع نفيا وإثباتا متفرع على القياس إجماعا وليس هو ركنا في القياس ; لأن نتيجة الدليل لا تكون ركنا في الدليل لما فيه من الدور الممتنع ، وعند ذلك فيلزم من أخذ إثبات الحكم ونفيه في الفرع في حد القياس أن يكون ركنا في القياس وهو دور ممتنع ، وقد أخذه في حد القياس حيث قال : ( في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما ) إشارة إلى الفرع والأصل .

          والمختار في حد القياس أن يقال : إنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل ، وهذه العبارة جامعة مانعة وافية بالغرض عرية عما يعترضها من التشكيكات العارضة لغيرها على ما تقدم .

          [8] [ ص: 191 ] وإذا عرف معنى القياس فهو يشتمل على أربعة أركان : الأصل ، والفرع ، وحكم الأصل ، والوصف الجامع .

          أما الأصل ، فقد يطلق على أمرين : الأول ما بني عليه غيره كقولنا : إن معرفة الله أصل في معرفة رسالة الرسول ، من حيث إن معرفة الرسول تنبني على معرفة المرسل . الثاني : ما عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره وإن لم يبن عليه غيره ، وذلك كما تقوله في تحريم الربا في النقدين فإنه أصل وإن لم يبن عليه غيره .

          وعلى هذا اختلف العلماء في الأصل في القياس ، وذلك كما إذا قسنا النبيذ على الخمر المنصوص عليه بقوله عليه السلام : " حرمت الخمرة لعينها " [9] في تحريم الشراب هل الأصل هو النص أو الخمر أو الحكم الثابت في الخمر ؟ وهو التحريم مع اتفاق الكل على أن العلة في الخمر وهي الشدة المطربة ليست هي الأصل .

          فقال بعض المتكلمين : الأصل هو النص الدال على تحريم الخمر لأنه الذي بني عليه التحريم ، والأصل ما بني عليه .

          [ ص: 192 ] وقالت الفقهاء : الأصل إنما هو الخمر الثابتة حرمته ; لأن الأصل ما كان حكم الفرع مقتبسا منه ومردودا إليه ، وهذا إنما يتحقق في نفس الخمر .

          وقال بعضهم : الأصل إنما هو الحكم الثابت في الخمر ; لأن الأصل ما انبنى عليه غيره وكان العلم به موصلا إلى العلم بغيره أو الظن ، وهذه الخاصية موجودة في حكم الخمر فكان هو الأصل .

          قالوا : وليس الأصل هو النص ; لأن النص هو الطريق إلى العلم بالحكم ، ولو تصور العلم بالحكم في الخمر دون النص كان القياس ممكنا ، ولأنه لو كان النص هو الأصل لكونه طريقا إلى معرفة الحكم باتفاق لكان قول الراوي هو أصل القياس بطريق الأولى لكونه طريقا إلى معرفة النص وليس كذلك بالاتفاق .

          وليس الأصل أيضا هو الخمر ; لأنه قد يعلم الخمر ولا يعلم أن الحرمة جارية فيه ولا في الفرع ، بخلاف ما إذا علم الحكم فكان هو الأصل .

          واعلم أن النزاع في هذه المسألة لفظي ، وذلك لأنه إذا كان معنى الأصل : ما يبنى عليه غيره فالحكم أمكن أن يكون أصلا لبناء الحكم في الفرع عليه على ما تقرر ، وإذا كان الحكم في الخمر أصلا فالنص الذي به معرفة الحكم يكون أصلا للأصل ، وعلى هذا : أي طريق عرف به حكم الخمر من إجماع أو غيره أمكن أن يكون أصلا ، وكذلك الخمر فإنه إذا كان محلا للفعل الموصوف بالحرمة فهو أيضا أصل للأصل فكان أصلا .

          والأشبه أن يكون الأصل هو المحل على ما قاله الفقهاء لافتقار الحكم والنص إليه ضرورة من غير عكس فإن المحل غير مفتقر إلى النص ولا إلى الحكم .

          وأما الفرع فهل هو نفس الحكم المتنازع فيه أو محله ؟ اختلفوا فيه :

          فمن قال بأن الأصل هو الحكم في الخمر قال : الفرع هو الحكم في النبيذ .

          ومن قال بأن الأصل هو المحل قال : الفرع هو المحل وهو النبيذ ، وإن كان الأولى أن يكون الفرع هو الحكم المتفرع على القياس ، والمحل أصل الحكم المفرع على القياس ، فتسمية الخمر أصل أولى من تسمية النبيذ فرعا من حيث إن الخمر أصل للتحريم الذي هو الأصل بخلاف النبيذ فإنه أصل للفرع لا أنه فرع له .

          [ ص: 193 ] وأما الوصف الجامع فهو فرع في الحكم لكونه مستنبطا من محل حكم المنصوص عليه ، فهو تبع للنص والحكم ومحله ، وهو أصل في الفرع لكون الحكم المتنازع فيه في النبيذ مبنيا عليه ، وتسمية الوصف الجامع في الفرع أصلا أولى من تسمية النص في الخمر والتحريم ومحله أصلا للاختلاف في ذلك والاتفاق على كون الوصف في ذلك أصلا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية