الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 24 ] المسألة الثانية

          الذين اتفقوا على جواز التعبد بالقياس عقلا اختلفوا :

          فمنهم من قال : لم يرد التعبد الشرعي به ، بل ورد بحظره كداود بن علي الأصفهاني وابنه القاشاني والنهرواني [1] ، ولم يقضوا بوقوع ذلك إلا فيما كانت علته منصوصة أو مومأ إليها .

          وذهب الباقون إلى أن التعبد الشرعي به واقع بدليل السمع ، واختلفوا في وقوعه بدليل العقل كما بيناه في وأومأنا إلى إبطاله .

          ثم الدليل السمعي هل هو قاطع أو ظني ؟ اختلفوا فيه ، فقال الكل : إنه قطعي سوى أبي الحسين البصري ، فإنه قال إنه ظني وهو المختار .

          وقد احتج على ذلك بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ضعفها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار ، فمنها كتابية وإجماعية ومعنوية :

          أما الكتابية فقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) .

          ووجه الاحتجاج به أنه أمر بطاعة الله والرسول ، والمراد من ذلك إنما هو امتثال أمرهما ونهيهما ، فقوله ثانيا : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) والظاهر من الرد هو القياس ، ولأنه لو أراد به اتباع أوامرهما ونواهيهما ، لكان ذلك تكرارا فلم يبق إلا أن يكون المراد به الرد إلى ما استنبط من الأمر والنهي .

          ولقائل أن يقول لا نسلم أن المراد من قوله تعالى : ( فردوه ) القياس على ما أمر الله ورسوله ، بل يمكن أن يكون المراد البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا ، حتى يدخل تحت قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ، فالأمر الأول بالطاعة للأمر والنهي ، والثاني بالبحث عن المتنازع فيه هل هو مأمور أو منهي أو لا فلا تكرار .

          [ ص: 25 ] وإنما يمكن [2] حمل الرد على القياس مع كونه مختلفا في الاحتجاج به ، أن لو تعذر حمل لفظ الرد على غيره وليس بمتعذر .

          وإن سلمنا امتناع حمله على البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا ، أمكن أن يكون المراد بقوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " فيما أمركم به ونهاكم عنه ، والمراد من قوله : " فإن تنازعتم في شيء " أي : فيما لم يسبق فيه أمر ولا نهي " فردوه إلى الله والرسول " بالسؤال للرسول لينبئكم عن مقتضى ذلك في كتاب الله وسنة رسوله .

          فإن قيل : هذا يوجب اختصاص الآية بمن وجد في زمن النبي عليه السلام لتعذر ذلك بالنسبة إلى من بعدهم ، والإجماع منعقد على تعميم وجوب الطاعة والرد إلى الله والرسول في كل زمان ، فلو كان معنى الرد السؤال للرسول لما تصور ذلك في حق من وجد بعد النبي عليه السلام .

          قلنا : وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ، ولكن لا نسلم أن وجوب الرد ثابت في كل زمان ; لأنه إن حمل الرد على القياس فهو محل النزاع ، وإن حمل على السؤال للنبي عليه السلام فظاهر أنه غير واجب على من لم يره [3] .

          فإن قيل : الضمير في المخاطب بالرد عائد إلى المخاطب بالطاعة ، فإذا كان الخطاب بالطاعة عاما ، فكذلك الخطاب بالرد وإذا تعذر حمل الرد على السؤال في حق الكل ، تعين أن يكون المراد به القياس .

          قلنا : وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ، ولكن لا نسلم أنها واجبة بقوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) لأنها مشافهة على ما سبق [ ص: 26 ] تقريره في الأوامر [4] .

          وإن سلمنا عموم خطاب الأمر بالطاعة ، فغايته أن يكون الضمير في قوله : " فردوه إلى الله والرسول " ظاهرا في العود إلى كل من أمر بالطاعة ، فعوده إلى البعض وهو من كان في زمن النبي - عليه السلام - لضرورة حمل الرد على السؤال للنبي - عليه السلام ، غايته أن يكون تخصيصا للعموم وهو مقابل بمثله في حمل الرد على القياس ، وذلك لأن الآية عامة في حق كل مجتهد وعامي ، ويلزم من حمل لفظ الرد على القياس تخصيص الآية بالمجتهدين دون غيرهم ، وليس مخالفة أحد العمومين والتمسك بالآخر أولى من العكس [5] .

          وأيضا قوله تعالى : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) والاستنباط هو القياس وهو ضعيف أيضا .

          وذلك لأنه إنما يجب حمل الاستنباط في الآية على القياس أن لو تعذر حمله على غيره ، وليس كذلك إذ أمكن أن يراد به استخراج الحكم من دليله ، وهو أعم من القياس ، ولهذا يصح أن يقال لمستخرج الحكم من دلالة النص إنه مستنبط .

          كيف وإن المذكور في صدر الآية إنما هو الأمن والخوف بقوله تعالى : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ) ، فيجب أن يكون الضمير في قوله ( أذاعوا به ) وفي قوله ( ولو ردوه ) وفي قوله ( لعلمه ) وفي قوله ( يستنبطونه ) عائدا إليه ; لأنه المذكور لا إلى غيره مذكور . ، وليس ذلك من القياس في شيء .

          وأيضا قوله تعالى : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) ووجه الاحتجاج به أنهم أوردوا ذلك في معرض صدهم عما كان يعبد أباؤهم لما بينهم من المشابهة في البشرية ، ولم ينكر عليهم ذلك وهو عين القياس فكان حجة ، وهو ضعيف أيضا لوجهين :

          [ ص: 27 ] الأول : لا نسلم عدم النكير عليهم ، فإن الآية إنما خرجت مخرج الإنكار لقولهم ذلك ، ولذلك قال تعالى : ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) .

          الثاني : أنه وإن كان قياسا وتشبيها في الأمور الحقيقية ، فلا يلزم مثله في الأحكام الشرعية إلا بطريق القياس أيضا ، وهو محل النزاع .

          وأما الإجماعية : فمنها أنهم قالوا : الأمة قد عقلت من قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) تحريم الشتم والضرب بطريق القياس ، وهو غير صحيح لإمكان قول الخصم إن ذلك إنما عقل من دلالة اللفظ وفحوى الخطاب على ما سبق .

          وإن كان ذلك بطريق القياس ، غير أن العلة فيه معلومة بدلالة النص ، وهي كف الأذى عن الوالدين ، ولا يلزم مثله فيما كانت العلة فيه مستنبطة مظنونة كما قاله النظام .

          ومنها : أن الأمة مجمعة على رجم الزاني المحصن قياسا على رجم النبي - صلى الله عليه وسلم ( لماعز ) ، وهو ضعيف وأيضا لإمكان أن يقال : بل إنما حكموا بذلك بناء على قوله - صلى الله عليه وسلم : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " [6] .

          ومنها أن الأمة مجمعة على أن الله تعالى تعبدنا بالاستدلال بالأمارات على جهة القبلة عند اشتباهها ، وذلك أيضا مما لا يمكن التمسك به ; لأن الخصم لا يمنع من التمسك بالأمارات مطلقا ، بل يجوز ذلك في القبلة وفي تقويم أروش الجنايات وقيم المتلفات وتقدير النفقات ، وفيما كانت الأمارات فيه خفية ، ولا يلزم مثله في الأمارات الشرعية والأقيسة .

          كيف وإن من الخصوم من يمنع من صحة الاجتهاد ثم اشتباه القبلة ويوجب التوجه إلى الجهات الأربع حتى يخرج عن العهدة بيقين ؟ !

          وأما الحجة المعنوية : فهي أن النص والإجماع مما يقل في الحوادث ويندر ، فلو لم يكن القياس حجة أفضى ذلك إلى خلو أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية وهو خلاف المقصود من بعثة الرسل ، وذلك ممتنع وهي ضعيفة أيضا .

          [ ص: 28 ] وذلك لأن الوقائع التي خلت عن النصوص والإجماع ، إنما يلزم خلوها عن الأحكام الشرعية أن لو لم يكن نفي الحكم الشرعي بعد ورود الشرع حكما شرعيا .

          وأما إذا كان حكما شرعيا ، وكان مدركه شرعيا وهو استصحاب الحال وانتفاء المدارك الشرعية المقتضية للأحكام الإثباتية فلا [7] .

          وإن سلمنا أن انتفاء الحكم عند انتفاء النص والإجماع ليس حكما شرعيا [8] ، ولكن إنما يمتنع ذلك أن لو كنا مكلفين بإثبات الأحكام الشرعية في كل قضية ، وهو غير مسلم .

          وذلك لأن الشارع كما يورد إثبات الأحكام في بعض الوقائع قد يورد نفيها [9] في بعض آخر على حسب اختلاف المصالح .

          ثم يلزم على ما ذكروه أن تكون المصالح المرسلة الخلية عن الاعتبار حججا في الشريعة وهو محال ، وذلك لأنه ليس كل واقعة يمكن وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها ، فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضا إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها ، والعذر إذ ذاك يكون مشتركا [10] .

          [ ص: 29 ] والمعتمد في المسألة الكتاب والسنة والإجماع .

          أما الكتاب فقوله تعالى : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) أمر بالاعتبار ، والاعتبار هو الانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس حيث إن فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولهذا قال ابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية ، أطلق الاعتبار وأراد به نقل حكم الأصابع إلى الأسنان ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .

          وإذا ثبت أن القياس مأمور به ، فالأمر إما أن يكون للوجوب أو للندب على ما سبق في الأوامر ، وعلى كلا التقديرين فالعمل بالقياس يكون مشروعا .

          فإن قيل : لا نسلم أنه أمر بالاعتبار وصيغة افعلوا مترددة بين الأمر وغيره كما سبق في الأوامر ، وليس جعلها ظاهرة في البعض أولى من البعض .

          سلمنا أنها للأمر ، ولكن لا نسلم أن الاعتبار ما ذكرتموه بل هو عبارة عن الاتعاظ ويدل عليه أمران : الأول قوله تعالى : ( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) ، وقوله : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) ، والمراد به الاتعاظ إذ هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ .

          الثاني : أن القائس في الفروع إذا أقدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته ; يقال إنه غير معتبر ولو كان القياس هو الاعتبار لما صح سلب ذلك عنه .

          سلمنا أن الاعتبار ظاهر في القياس لكنه قد وجد في الآية ما يمنع من الحمل عليه ويصرفه إلى الاعتبار بمعنى الاتعاظ ، وذلك قوله تعالى : ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) ، ولو كان الاعتبار بمعنى القياس لما حسن ترتيبه على ذلك ، وإنما يحسن ذلك عند إرادة الاتعاظ .

          سلمنا أن المراد به القياس ، غير أنه ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس ، فكانت الآية مطلقة ، والمطلق إذا عمل به في صورة أو صور لا يبقى حجة فيما عداها ، ضرورة الوفاء ومعناه بدلالته ، وقد عملنا بذلك في القياس العقلي [ ص: 30 ] والقياس الذي علته منصوصة أو مومأ إليها وبقياس الفروع على الأصول في امتناع إثباتها بالقياس .

          سلمنا العموم لكنه قد خص بما كلفنا فيه باليقين وبما كان منصوصا عليه وبما لم نعلم له أصلا ولا وصفا جامعا ، فإن القياس غير مأمور به في ذلك كله .

          وكذلك إذا قال لوكيله : " أعتق غانما لسواده " فإنه لا يجوز تعدية ذلك إلى سالم وإن كان مسودا .

          والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة ، وإن بقي حجة ففي أقل ما يتناوله الاسم العام على ما سبق في العموم .

          وإن سلمنا أنه يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص ، غير أن الآية خطاب مع الموجودين ، فيختص ذلك بمن كان موجودا في وقت نزول الوحي بالآية ، وإن عم جميع الأزمان ولكنه أمر مطلق ، فلا يكون مفيدا للفور ولا للتكرار ، وإن كان مفيدا لذلك لكن بطريق ظني لا قطعي ، والمسألة قطعية لا ظنية .

          والجواب عن السؤال الأول أنا قد بينا أن صيغة ( افعل ) ظاهرة في الطلب ، وأن الطلب لا يخرج عن اقتضاء الوجوب أو الندب في الأوامر وأي الأمرين قدر كان دليلا على شرع القياس .

          قولهم : لا نسلم أن الاعتبار عبارة عما ذكرتموه .

          قلنا : دليله ما ذكرناه [11] .

          قولهم : يطلق بمعنى الاتعاظ .

          قلنا : عنه جوابان :

          الأول : المنع ، ويدل عليه قولهم : اعتبر فلان فاتعظ ، ولو كان الاعتبار هو الاتعاظ لما حسن هذا الكلام والترتيب ، ولأن ترتيب الشيء على نفسه ممتنع .

          الثاني : أن الاعتبار بمعنى الانتقال من الشيء إلى [12] ( غيره مشترك بين القياس والاتعاظ أما أن الانتقال متحقق في القياس فقد سبق بيانه ، وأما أنه متحقق في الاتعاظ ) فذلك لأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه [13] ( ويجب أن يكون لفظ الاعتبار حقيقة فيما وقع فيه الاشتراك نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ ، وإذا كان كذلك فالأمر بالاعتبار أمر بالقدر المشترك بين القياس والاتعاظ ، [ ص: 31 ] وهو إما أن يكون متناولا لواحد من الاعتبارات على سبيل الشيوع أو لكل اعتبار على جهة العموم .

          فإن كان الأول فتعلق الأمر به إنما كان لما يتعلق به من المصلحة وتلك المصلحة فكما تحصل من الواحد الفرد تحصل من كل واحد من الأفراد ضرورة الاشتراك في ملزومها ، فاللفظ وإن لم يكن عاما بلفظه فيكون عاما بمعناه .

          وإن كان الثاني فهو المطلوب ) فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال وذلك هو القياس ، وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الآيتين .

          قولهم : القائس إذا كان معرضا عن أمر آخرته يقال إنه غير معتبر .

          قلنا : لا يصح إلى كونه قائسا ، وإنما صح إلى أمر الآخرة ، وإنما أطلق النفي بطريق المجاز نظرا إلى إخلاله بأعظم المقاصد وهو أمر المعاد .

          ( وعن الثالث [14] أنه إذا كان الانتقال متحققا في الاتعاظ على ما قدمناه - وذلك هو القياس - فلا نسلم امتناع ترتيب القياس على ما ذكروه .

          وعن الرابع : أن اللفظ إن كان عاما فهو المطلوب ، وإن كان مطلقا فيجب حمله على القياس الشرعي [15] نظرا إلى أن الغالب من الشارع أنه إنما يخاطبنا بالأمور الشرعية دون غيرها ، وهو إما أن تكون العلة فيه منصوصة أو مستنبطة ، والأول ليس بقياس على ما حققناه قبل .

          وإن كانت مستنبطة فقد سلم صحة الاحتجاج ببعض الأقيسة المختلف فيها ، ويلزم من ذلك تسليم الباقي ضرورة أن لا قائل بالفرق ) .

          وعن الخامس : أن العام بعد التخصيص يكون حجة فيما وراء صور التخصيص على ما سبق في العموم .

          وعن قولهم : إنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ، فلا يعم .

          قلنا : لا نسلم أنه لا يعم بتقدير الوجود والفهم ، وإن سلمنا أنه لا يعم بلفظه ، فهو عام بمعناه ، نظرا إلى انعقاد الإجماع على أن أحكام الخطاب الثابث في زمن النبي عليه السلام عامة في حق من بعد النبي - صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم يكن الخطاب عاما بلفظه [ ص: 32 ] وجب أن يكون عاما بمعناه ضرورة انعقاد الإجماع على ذلك [16] .

          وبتقدير أن لا يكون عاما لا بلفظه ، فهو حجة على الخصوم في بعض صور النزاع ، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ، ضرورة أن لا قائل بالتفصيل .

          وبهذا الجواب يكون الجواب عن قولهم : إن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التكرار .

          وعن السؤال الأخير أن المسألة ظنية غير قطعية [17] .

          وأما من جهة السنة ، فما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيا : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي " والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقره على ذلك ، وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله " [18] واجتهاد الرأي لا بد وأن يكون مردودا إلى أصل وإلا كان مرسلا ، والرأي المرسل غير معتبر ، وذلك هو القياس .

          [ ص: 33 ] وأيضا ما روي عنه عليه السلام ، أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري وقد أنفذهما إلى اليمن : " بم تقضيان ؟ فقالا : إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنة قسنا الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به " صرحوا بالعمل بالقياس ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهما عليه ، فكان حجة .

          وأيضا : ما روي عنه عليه السلام أنه قال لابن مسعود : " اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما ، فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد رأيك " ، ووجه الاحتجاج به كما تقدم في الخبر الأول .

          وأيضا : ما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت : " يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج ، إن حججت عنه أينفعه ذلك ؟ فقال لها : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، أكان ينفعه ذلك ؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحق بالقضاء " [19] ووجه الاحتجاج به أنه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه ، وهو عين القياس .

          وما مثل هذا [20] يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس كما سبق تحقيقه .

          [ ص: 34 ] وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لأم سلمة ، وقد سئلت عن قبلة الصائم : " هل أخبرته أني أقبل وأنا صائم " [21] وإنما ذكر ذلك تنبيها على قياس غيره عليه .

          وأيضا : ما روي عنه أنه أمر سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه ، وأمرهم بالنزول على حكمه فأمر بقتلهم وسبي نسائهم ، فقال عليه السلام : " لقد وافق حكمه حكم الله " .

          وأيضا : ما روي عنه عليه السلام أنه قال : " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " حكم بتحريم ثمنها باعتبار تحريم أكلها .

          وأيضا : ما روي عنه عليه السلام ، أنه علل كثيرا من الأحكام ، والتعليل موجب لاتباع العلة أين كانت ، وذلك هو نفس القياس .

          فمن ذلك قوله عليه السلام : " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة ، فادخروها " .

          وقوله : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة " .

          ومنها قوله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر : " أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا : نعم ، فقال : فلا إذا " .

          ومنها قوله : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) ومنها قوله في حق محرم وقصت به ناقته : " لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا " .

          ومنها قوله في حق شهداء أحد : " زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة ، وأوداجهم تشخب دما ، اللون لون الدم والريح ريح المسك " .

          [ ص: 35 ] ومنها قوله في الهرة : " إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات " [22] .

          وقوله : " إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل ، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده " .

          وقوله في الصيد : " فإن وقع في الماء فلا تأكل منه لعل الماء أعان على قتله " [23] .

          وأيضا قوله : " أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي " [24] والرأي إنما هو تشبيه شيء بشيء ، وذلك هو القياس إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها النازل جملتها منزلة التواتر ، وإن كانت آحادها آحادا .

          فإن قيل : أما حديث معاذ فإنه مرسل ، وخبر واحد ورد في إثبات كون القياس حجة ، وهو مما تعم به البلوى ، والمرسل ليس بحجة عند الشافعي ، وخبر الواحد فيما تعم به البلوى ليس بحجة عند أبي حنيفة فالإجماع من الفريقين على أنه ليس بحجة .

          والذي يدل على ضعفه أن النبي عليه السلام كان قد ولاه القضاء ، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة اشتمالمعاذ على معرفة ما به يقضي ، فالسؤال عما علم لا معنى له .

          وأيضا فإنه وقف العمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة ، ووقف العمل بالسنة على عدم وجدان الكتاب .

          والأول على خلاف قوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، وعلى خلاف قوله : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) ( الأنعام 59 ) ، والثاني على خلاف الدليل الدال على جواز نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة .

          [ ص: 36 ] سلمنا صحته وأنه حجة ، غير أن اجتهاد الرأي أعم من القياس ، وذلك لأن اجتهاد الرأي كما يكون بالقياس قد يكون بالاجتهاد في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة وطلب الحكم فيهما ، وعلى التمسك بالبراءة الأصلية ، ولفظه غير عام في كل رأي ، فلا يكون حمله على اجتهاد الرأي بالقياس أولى من غيره .

          سلمنا أن المراد به اجتهاد الرأي بالقياس ، غير أن القياس ينقسم إلى ما علته منصوصة أو مومأ إليها ، وإلى ما علته مستنبطة بالرأي ، واللفظ أيضا مطلق ، وقد عملنا به في القياس الذي علته منصوصة على ما قاله النظام .

          سلمنا أنه حجة مطلقا في كل قياس ، ولكن قبل إكمال الدين أو بعده ؟ على ما قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) .

          الأول مسلم ، والثاني ممنوع ، وذلك أن إكمال الدين إنما يكون باشتمال الكتاب والسنة على تعريف كل ما لا بد من معرفته ، وعلى هذا فالقياس لا حاجة إليه بعد ذلك ، وبتقدير كونه حجة مطلقا لكن فيما تعبدنا في إثباته بالظن لا باليقين ، والقياس ليس من هذا الباب ، وبهذا يكون الاعتراض على حديث ابن مسعود أيضا .

          وأما حديث الجارية الخثعمية ، فالوارد عليه من جملة الأسئلة الواردة على حديث معاذ أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى ، وأنه ظني فلا يتمسك به في مسائل الأصول وهما عامان في جميع ما ذكر من الأخبار ، ويخصه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر دين الآدمي بطريق التقريب إلى فهم الجارية في حصول نفع القضاء ، أما أن يكون ذلك بطريق القياس ، فلا .

          وأما حديث أم سلمة فيدل على أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة متبعة ، أما أن يكون ذلك بطريق القياس على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا .

          وأما حديث سعد بن معاذ ، فليس فيه أيضا ما يدل على صحة القياس ، فإن أمره له بأن يحكم في بني قريظة برأيه لا يخص القياس لما تقدم من أن اجتهاد الرأي أعم من القياس ، فلعله أمره أن يحكم باجتهاد رأيه في الاستدلال بخفي النصوص [ ص: 37 ] من الكتاب والسنة ، ولذلك قال عليه السلام : " لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله " .

          وأما خبر تحريم الشحوم على اليهود ، فليس فيه ما يدل على تحريم البيع بالقياس على تحريم الأكل ، فإن تحريم الشيء أعم من تحريم أكله ، فإن تحريم الشيء تحريم للتصرف فيه مطلقا ، وبتقدير أن يكون تحريم الأكل مصرحا به ، فالمراد به تحريم التصرف مطلقا ، بدليل قوله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم ) ، وقوله : ( ولا تأكلوا مال اليتيم ) .

          وقوله : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) ، والمراد به المنع من التصرف في ذلك بغير حق .

          وأما الأخبار الدالة على تعليل الأحكام ، فليس يلزم من الحكم المنصوص عليه بعلة إلحاق غير المنصوص به لاشتراكهما في تلك العلة ، إذ هو محل النزاع ، وليس في الأخبار ما يدل على الإلحاق ، بل التعليل إنما كان لتعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول ، ولهذا أمكن التنصيص على العلة القاصرة ولا قياس عنها .

          وبتقدير دلالتها على الإلحاق ، فالعلل فيها منصوصة ومومأ إليها .

          ونحن نقول بهذا النوع من القياس كما قاله النظام ، وقوله عليه السلام : " إني أحكم بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي " فهو على خلاف قوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ، وبتقدير أن يكون حكمه بالرأي فلا يلزم أن يكون ذلك بالقياس لما تقدم .

          وبتقدير أن يكون بالقياس ، فلا يلزم من جواز التمسك بالقياس للنبي - عليه السلام - مع كونه معصوما عن الخطأ مسددا في أحكامه جواز ذلك لغيره .

          والجواب عن السؤال الأول على خبر معاذ أنا قد بينا أن المرسل وخبر الواحد فيما تعم به البلوى حجة .

          وأما سؤال معاذ عما به يقضي ; فإنما كان قبل توليه القضاء ليعلم صلاحيته لذلك ، وإن كان ذلك بعد توليه القضاء فإنما كان ذلك بطريق التأكيد أو بإعلام الغير بأهليته للقضاء [ ص: 38 ] وأما توقيفه للعمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة فغير مخالف لقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) إذ المراد منه إنما هو عدم التفريط فيما ورد من الكتاب ، لا أن المراد به بيان كل شيء ، فإنا نعلم عدم اشتماله على بيان العلوم العقلية من الهندسية والحسابية وكثير من الأحكام الشرعية .

          وبتقدير أن يكون المراد به بيان كل شيء لكن لا بطريق الصريح ، بل بمعنى أنه أصل لبيان كل شيء ، فإنه أصل لبيان صدق الرسول في قوله ، وقوله بيان للقياس وغيره ، وبه يخرج الجواب عن الآية الأخرى .

          وأما توقيفه العمل بالسنة على عدم الكتاب ، فالمراد به الكتاب الذي لا معارض له ولا ناسخ ، ويجب تنزيله على ذلك ; ضرورة الجمع بين تقرير النبي - عليه السلام - له على ذلك وبين الدليل الدال على نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة .

          وعن السؤال الثاني أنه يمتنع حمل اجتهاد الرأي على الاجتهاد في الاستدلال بخفي نصوص الكتاب والسنة ; لأن قوله ( فإن لم تجد ) عام في الجلي والخفي [25] بدليل صحة الاستثناء وورود الاستفهام ، فتخصيص ذلك بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع ، والتمسك بالبراءة الأصلية في نفي الأحكام الشرعية ، ليس بحجة على ما يأتي ، فلا يكون اجتهاد الرأي فيه مستندا للحكم [26] .

          وبتقدير أن يكون حجة فذلك معلوم لكل عاقل ، فلا يكون مفتقرا إلى اجتهاد الرأي .

          وعن السؤال الثالث : أنا لا نسلم أن ما كانت علته منصوصة يكون قياسا على ما سيأتي [27] .

          وإن سلمنا أنه قياس فما ذكرناه وإن لم يكن حجة على النظام ، فهو حجة على غيره .

          وعن الرابع : أن إكمال الدين إنما يكون ببيان كل شيء ، إما بلا واسطة أو [ ص: 39 ] بواسطة على ما بيناه ، وعلى هذا فلا يمتنع العمل بالقياس بعد إكمال الدين لكونه من جملة الوسائط .

          وعن الخامس : ما سبق من أن المسألة ظنية غير قطعية [28] وعلى هذا فلا يخفى الجواب عما يعترض به على خبر ابن مسعود .

          وكذلك جواب كل ما يعترض به من هذه الأسئلة على باقي الأخبار .

          وما ذكروه على خبر الجارية الخثعمية فبعيد أيضا ، فإنه لو لم يكن مدرك الحكم فيما سألت عنه القياس على دين الآدمي ; لما كان التعرض لذكره مفيدا ، بل كان يجب الاقتصار على قوله نعم .

          وما ذكروه على حديث أم سلمة فغير صحيح ، وذلك لأنه لو لم يكن اتباعنا له في فعله بطريق التأسي به لما كان حكم فعله ثابتا في حقنا ، ولا معنى للقياس سوى ذلك .

          وما ذكروه على حديث سعد بن معاذ باطل أيضا ; لأن حكمه لو كان مستندا إلى الكتاب أو السنة لما كان ذلك برأيه ، وقد قال : " احكم فيهم برأيك " 8 [29] ، وقوله عليه السلام : " لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله " لا منافاة بينه وبين الحكم بالقياس ، فإنه إذا كان القياس من طرق الشرع ; فالحكم المستند إليه يكون حكما لله ولرسوله .

          وما ذكروه على خبر الشحوم مندفع من حيث إن الظاهر من إضافة التحريم إلى المأكول إنما هو تحريم الأكل .

          وكذلك التحريم المضاف إلى النساء إنما هو تحريم الوطء ، وإلى الدابة تحريم الركوب ، وإلى الدار تحريم السكنى .

          وكذلك في كل شيء على حسبه ، وهو المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه ، فتحريم [ ص: 40 ] البيع لا يكون مأخوذا من مطلق التحريم المضاف إلى أكل الشحوم ، فلم يبق إلا أن يكون بطريق الإلحاق به وهو معنى القياس [30] .

          وما ذكروه على الأخبار الدالة على التعليل بالعلل المذكورة من أن ذلك لا يدل على التعدية فحق ، غير أن ما ذكروه بتقدير تسليم التعدية على مذهب النظام فقد سبق جوابه [31] .

          وأما الإجماع - وهو أقوى الحجج في هذه المسألة - [32] فهو أن الصحابة اتفقوا على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم ; [33] فمن ذلك [34] رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر - رضي الله عنه - في أخذ الزكاة من بني حنيفة ، وقتالهم على ذلك [ ص: 41 ] وقياس خليفة رسول الله على الرسول في ذلك بوساطة أخذ الزكاة للفقراء وأرباب المصارف [35] .

          ومن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة : " أقول في الكلالة برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان " الكلالة ما عدا الوالد والولد [36] .

          ومن ذلك أن أبا بكر ورث أم الأم دون أم الأب ، فقال له بعض الأنصار : " لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها ، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت " ، فرجع إلى التشريك بينهما في السدس [37] .

          ومن ذلك حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء حتى قال له عمر : " كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرها ، فقال أبو بكر : إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ " ، وحيث انتهت [ ص: 42 ] النوبة إلى عمر فرق بينهم [38] .

          ومن ذلك قياس أبي بكر تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة ، حتى إنه عهد إلى عمر بالخلافة ووافقه على ذلك الصحابة [39] .

          ومن ذلك ما روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : " اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك " .

          ومن ذلك قول عمر : " أقضي في الجد برأيي ، وأقول فيه برأيي " ، وقضى فيه بآراء مختلفة [40] .

          ومن ذلك قوله لما سمع حديث الجنين : " لولا هذا لقضينا فيه برأينا " .

          [ ص: 43 ] ومن ذلك أنه لما قيل له في مسألة المشركة " هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة " فشرك بينهم [41] .

          ومن ذلك أنه لما قيل لعمر : إن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور وخللها وباعها ، قال : " قاتل الله سمرة ، أما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " ، قاس الخمر على الشحم وأن تحريمها تحريم لثمنها .

          ومن ذلك أنه جلد أبا بكرة حيث لم يكمل نصاب الشهادة بالقياس على القاذف وإن كان شاهدا لا قاذفا .

          ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة : " إن تتبع رأيك فرأيك أسد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم ذلك الرأي كان " ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يجز تصويبهما .

          ومن ذلك أنه ورث المبتوتة بالرأي [42] .

          ومن ذلك قول علي - عليه السلام - في حد شارب الخمر : " إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى ، فحدوه حد المفترين " [43] قاس حد الشارب على القاذف .

          ومن ذلك أن عمر كان يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة ، فقال له علي يا أمير المؤمنين : أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة ; أكنت تقطعهم ؟ قال : نعم ، قال : فكذلك وهو قياس للقتل على السرقة .

          ومن ذلك ما روي عن علي أنه قال في أمهات الأولاد ( اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن ، وقد رأيت الآن بيعهن ) حتى قال له عبيدة السلماني : ( رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ) [44] .

          [ ص: 44 ] ومن ذلك قول علي في المرأة التي أجهضت بفزعها بإرسال عمر إليها : أما المأثم فأرجو أن يكون منحطا عنك وأرى عليك الدية ، فقال له : عزمت عليك أن لا تبرح حتى تضربها على بني عدي - يعني قومه - وألحقه عثمان وعبد الرحمن بن عوف بالمؤدب ، وقالا : إنما أنت مؤدب ، ولا شيء عليك

          [45] .

          ومن ذلك قول ابن عباس ; لما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين أين : ( وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي ؟ ) فقال له زيد : أقول برأيي وتقول برأيك [46] .

          ومن ذلك قوله في مسألة الجد ( ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا ) .

          ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا ، وأنه كان يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول : ( لا ضير في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين ، فإن لم تجد شيئا من ذلك فاجتهد رأيك ) .

          ومن ذلك اختلاف الصحابة في الجد حتى ألحقه بعضهم بالأب في إسقاط الأخوة وألحقه بعضهم بالأخوة .

          [ ص: 45 ] ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته : " أنت علي حرام " ، حتى قال أبو بكر وعمر : هو يمين .

          وقال علي وزيد : هو طلاق ثلاث .

          وقال ابن مسعود : هو طلقة واحدة .

          وقال ابن عباس : هو ظهار ، إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى ، وذلك يدل على أن الصحابة مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها ، وأنه ما من واحد من أهل النظر والاجتهاد منهم إلا وقد قال بالرأي والقياس .

          ومن لم يوجد منه الحكم بذلك فلم يوجد منه في ذلك إنكار ، فكان إجماعا سكوتيا وهو حجة مغلبة على الظن لما سبق تقريره في مسائل الإجماع .

          وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي والقياس في جميع هذه الصور ، وذلك لا بد لهم فيها من مستند وإلا كانت أحكامهم بمحض التشهي والتحكم في دين الله من غير دليل ، وهو ممتنع وذلك المستند يمتنع أن يكون نصا ، وإلا لأظهر كل واحد ما اعتمد عليه من النص ; إقامة لعذره وردا لغيره عن الخطأ بمخالفته على ما اقتضته العادة الجارية بين النظار ، ولأن العادة تحيل على الجمع الكثير كتمان نص دعت الحاجة إلى إظهاره في محل الخلاف .

          وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم في واقعة بناء على نص ، فإنه لا يمتنع اتفاقهم على عدم نقله بناء على الاكتفاء في ذلك الحكم بإجماعهم ، ولو أظهروا تلك النصوص واحتجوا بها ; لكانت العادة تحيل عدم نقلها ، فحيث لم تنقل دل على عدمها ، وإذا لم يكن نصا تعين أن يكون قياسا واستنباطا .

          فإن قيل : لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس ، وما نقل عنهم من الاجتهاد في الوقائع المذكورة والعمل بالرأي ، فلعلهم إنما استندوا فيه إلى الاجتهاد في دلالات النصوص الخفية من الكتاب والسنة ، كحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص ، وترجيح أحد النصين على الآخر ، والنظر في تقرير النفي الأصلي ودلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وأدلة الخطاب وتحقيق المناط وغير ذلك من الاجتهادات المتعلقة بالأدلة النصية .

          [ ص: 46 ] قولكم : لو كان ثم نص لظهر ، ولو كانوا قائسين لتلك الصور على غيرها ; لأظهروا العلل الجامعة فيها وصرحوا بها كما في النصوص ، ولو أظهروها واحتجوا بها لنقلت أيضا ، فعدم نقلها يدل على عدمها ، وإذا لم يكن قياس واستنباط تعين أن يكون المستند إنما هو النص وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .

          وما نقل عن الصحابة من التصريح ومعناه بالرأي في الوقائع المذكورة لا يلزم أن يكون قياسا ، فإن اجتهاد الرأي أعم من اجتهاد الرأي بالقياس على ما تقرر ، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص .

          سلمنا أنهم عملوا بالقياس ، غير أنا لا نسلم عمل الكل به ، فإنه لم ينقل ذلك إلا عن جماعة يسيرة لا تقوم الحجة بقولهم .

          قولكم : إنه لم يوجد من غيرهم نكير عليهم لا نسلم ذلك .

          وبيان وجود الإنكار [47] ما روي عن أبي بكر أنه لما سئل عن الكلالة قال : " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني ، إذا قلت في كتاب الله برأيي " .

          وأيضا ما روي عن عمر أنه قال : " إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء الدين أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " . وقال : " إياكم والمكايلة " فسئل عن ذلك ، فقال : " المقايسة " ، وروي عن شريح أنه قال كتب إلي عمر : ( اقض بما في كتاب الله ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله ، فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم ، فإن لم تجد فلا عليك أن لا تقضي ) .

          وأيضا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر في مسألة الجنين : ( إن اجتهدوا فقد أخطئوا وإن لم يجتهدوا فقد غشوك ) .

          [ ص: 47 ] وروي عن عثمان وعلي أنهما قالا : ( لو كان الدين بالقياس ; لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ) .

          وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، ولم يقل بما رأيت ، ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله ، وقال : إياكم والمقاييس ، فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس ، وقال : ( إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه ) .

          وروي عن ابن عمر أنه قال : ( السنة ما سنه رسول الله ، لا تجعلوا الرأي سنة ) ، وقال أيضا : ( إن قوما يفتون بآرائهم لو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون ) ، وقال أيضا : ( اتهموا الرأي على الدين ، فإنه منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) .

          وروي عن ابن مسعود أنه قال : ( إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما حلل الله ) ، وقال أيضا : ( قراؤكم صلحاؤكم يذهبون ، ويتخذ الناس رءوسا جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان ) .

          وقالت عائشة : ( أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله بفتواه بالرأي في مسألة العينة ) .

          وقد أنكر التابعون ذلك أيضا حتى قال الشعبي : ( ما أخبروك عن أصحاب محمد فاقبله وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الحش ) ، وقال مسروق : ( لا أقيس شيئا بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها ) ، وكان ابن سيرين يذم المقاييس ويقول : ( أول من قاس إبليس ) .

          ومع هذه الإنكارات من الصحابة والتابعين فلا إجماع .

          سلمنا أنه لم يظهر النكير في ذلك ، لكن لا يلزم منه أن يكون سكوت الباقين عن موافقة ، لما ذكر في الإجماع [ ص: 48 ] سلمنا أنه موافقة ، لكنه لا حجة في إجماع الصحابة .

          وكيف يقال بذلك ، وقد عدلوا عما أمروا به ونهوا عنه وتجبروا وتآمروا وجعلوا الخلاف طريقا إلى أغراضهم الفاسدة ؟ حتى جرى بينهم ما جرى من الفتن والحروب وتألبوا على أهل البيت ، وكتموا النص على علي رضي الله عنه وغصبوه الخلافة ، ومنعوا فاطمة إرثها من أبيها المنصوص عليه في كتاب الله برواية انفرد بها أبو بكر ، وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص الدالة على جميع الأحكام الشرعية ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يجوز معها الاحتجاج بأقوالهم ، وهذا السؤال مما أورده الرافضة .

          سلمنا أن قول البعض بالقياس وسكوت الباقين حجة ، لكنها حجة ظنية على ما سبق في الإجماع ، وكون القياس حجة أمر قد تعبدنا فيه بالعلم ، فلا يكون مستفادا من الدليل الظني .

          سلمنا صحة الاحتجاج به ، ولكن ما المانع أن يكون عملهم بالقياس المنصوص على علته ، ونحن نقول به كما قاله النظام والقاشاني والنهرواني .

          سلمنا عملهم بكل قياس ، لكن لم قلتم إنه إذا جاز العمل بالقياس للصحابة جاز ذلك لمن بعدهم ; وذلك لأن الصحابة لما كانوا عليه من شدة اليقين والصلابة في الدين ومشاهدة الوحي والتنزيل وكثرة التحفظ في أمور دينهم ، حتى نقل عنهم قتل الأباء والأبناء وبذل الأنفس والأموال ومهاجرة الأهل والأوطان في نصرة الدين ، حتى ورد في حقهم من التفضيل والتعظيم في الكتاب والسنة ما لم يرد مثله في حق غيرهم على ما ذكر في الإجماع ، وعند ذلك فلا يلزم من جواز عملهم بالقياس جوازه لغيرهم .

          سلمنا دلالة ما ذكرتموه على صحة القياس وأنا متعبدون به لكنه معارض بالكتاب والسنة .

          أما الكتاب فقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) ، والحكم بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله ; لأنه حكم بغير قوليهما .

          وقوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، وقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، والحكم بالقياس قول بما لا يعلم .

          [ ص: 49 ] وقوله تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ، وقوله تعالى : ( إن بعض الظن إثم ) ، وقوله تعالى : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله .

          وقوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، وقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) ، والحكم بالقياس لا يكون حكما لله ولا مردودا إليه .

          وقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، وقوله تعالى : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) ، وذلك يدل على أنه لا حاجة إلى القياس .

          وأما من جهة السنة فما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ستفترق أمتي فرقا أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور بالرأي " [48] وأيضا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله ، وبرهة بسنة رسول الله ، وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا وأضلوا " [49] ، وذلك يدل على أن القياس والعمل بالرأي غير صحيح .

          والجواب : قولهم لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس ، قلنا : دليله ما ذكرناه .

          قولهم : يحتمل أن يكون عملهم بدلالات النصوص الخفية .

          قلنا : لو كان كذلك لظهر المستند واشتهر على ما قررناه .

          قولهم : ولو كان ذلك لمحض القياس لأظهروا العلل الجامعة وصرحوا بها كما في النصوص .

          قلنا : منهم من صرح كتصريح أبي بكر في التسوية في العطاء بين المهاجرين وغيرهم ، وهو قوله : " إنما الدنيا بلاغ " وتصريح علي في قياسه حد شارب الخمر على حد القاذف بواسطة الاشتراك في الافتراء ، وتصريح عثمان وعبد الرحمن بن عوف في إلحاقهم عمر في صورة المرأة التي أجهضت الجنين بالمؤدب بواسطة التأديب .

          ومنهم من اعتمد في التنبيه عليها بفتواه ، وجري العادة بفهم المستمع وجه المأخذ والشبه بين محل النزاع ومحل الإجماع ، ولهذا فإن العادة جارية من بعض [ ص: 50 ] الملوك بقتل الجاسوس إذا ظفر به ; زجرا له ولغيره عن التجسس عليه ، وعادة البعض الإحسان إليه لاستمالته له حتى يدله على أحوال عدوه ، فإذا رأينا ملكا قد قتل جاسوسا أو أحسن إليه ، ولم نعهد من عادته قبل ذلك شيئا كان ذلك كافيا في التنبيه على رعاية العلة الموجبة للقتل أو الإحسان في محل الوفاق ، ولا كذلك النصوص فإن الأذهان غير مستقلة بمعرفتها ، فدعت الحاجة إلى التصريح بها .

          وعلى هذا فمن قال منهم في قوله : " أنت علي حرام " : إنه طلاق ثلاث نبه على أن مطلق التحريم يقتضي نهاية التحريم ، وذلك مشترك بينه وبين الطلاق الثلاث ، فلذلك عدى الطلاق الثلاث إليه .

          ومن جعله طلقة واحدة نبه على أنه اعتبر فيه أقل ما يثبت معه التحريم ، فلذلك ألحقه بالطلقة الواحدة ، ومن جعله ظهارا ألحقه بالظهار من حيث إنه يفيد التحريم بلفظ ليس هو لفظ الطلاق ، ولا لفظ الإيلاء .

          ومن شرك بين الجد وابن الابن نبه على أن العلة في ذلك استواؤهما في الإدلاء إلى الميت في طرفي العلو والسفل ، ولهذا شبههما بغصني شجرة وجدولي نهر .

          ومن ذلك تنبيه عمر في قياسه الخمور على الشحوم على أن العلة في تحريم أثمانها تحريمها .

          ومن ذلك التنبيه في التشريك بين الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأم على أن العلة الاشتراك في جهة الأمومة إلى غير ذلك من التنبيهات .

          ويدل على ما ذكرناه لبعض أكثر الصحابة فيما عملوا به بالرأي .

          قولهم : اجتهاد الرأي أعم من القياس .

          قلنا : وإن كان الأمر على ما قيل ، غير أنا قد بينا أنه لم يكن ذلك مستندا إلى النصوص ، فتعين استناده إلى القياس والاستنباط [50] .

          قولهم : لا نسلم عمل الكل بالقياس .

          [ ص: 51 ] قلنا : وإن عمل به البعض ، فقد بينا أنه لم يوجد من الباقين في ذلك نكير فكان إجماعا .

          قولهم : قد وجد الإنكار ، لا نسلم ذلك ، وما ذكروه من صور الإنكار فهي منقولة عمن نقلنا عنهم القول بالرأي والقياس ، فلا بد من التوفيق بين النقلين لاستحالة الجمع بينهما والعمل بأحدهما من غير أولوية ، وعند ذلك فيجب حمل ما نقل عنهم من إنكار العمل بالرأي والقياس على ما كان من ذلك صادرا عن الجهال ، ومن ليس له رتبة الاجتهاد ، وما كان مخالفا للنص ، وما ليس له أصل يشهد له بالاعتبار ، وما كان على خلاف القواعد الشرعية وما استعمل من ذلك فيما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن جمعا بين النقلين ، هذا من جهة الإجمال .

          وأما من جهة التفصيل : أما قول أبي بكر : " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي " فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ، ولا شك أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه لكونه مستندا إلى محض السمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم ، وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية .

          وأما قول عمر : " إياكم وأصحاب الرأي " الخبر إلى آخره ، فإنما قصد به ذم من ترك الأحاديث وحفظ ما وجد منها وعدل إلى الرأي مع أن العمل به مشروط بعدم النصوص .

          وقوله : ( إياكم والمكايلة ) أي المقايسة ، فالمراد به المقايسة الباطلة لما ذكرناه .

          وأما قوله لأبي موسى الأشعري [51] فإنما يفيد أن لو لم يكن القياس مما أجمع عليه أهل العلم ، وإلا فبتقدير أن يكون واجدا له ; فلا .

          [ ص: 52 ] وقول علي لعمر في مسألة الجنين لا يدل على أن كل اجتهاد خطأ ، ونحن لا ننكر الخطأ في بعض الاجتهادات كما سبق تعريفه .

          وأما قول عثمان وعلي : " لو كان الدين بالقياس " الخبر ، فيجب حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس ، لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ، ويكون المقصود منه أنه ليس كل ما أتت به السنن على ما يقتضيه القياس .

          وأما قول ابن عباس " إن الله قال لنبيه " الخبر ، ليس فيه ما يدل على عدم الحكم بالقياس إلا بمفهومه وليس بحجة على ما سبق بيانه .

          وقوله : ( إياكم والمقاييس ) يجب حمله على المقاييس الفاسدة كالمقاييس التي عبدت بها الشمس والقمر وغير ذلك مما بيناه لما سلف من الجمع بين النقلين .

          وقوله : " إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه " يجب حمله على الرأي المجرد عن اعتبار الشارع له لما سبق .

          وأما قول ابن عمر : " السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإنما ينفع أن لو كان القياس ليس مما سنه الرسول .

          وقوله : " لا تجعلوا الرأي سنة " أراد به الرأي الذي لا اعتبار له ، وإلا فالرأي المعتبر من السنة لا يكون خارجا عن السنة .

          وقوله : " إن قوما يفتون بآرائهم " الخبر ، ليس فيه ما يدل على أن كل من أفتى برأيه يكون كذلك ، ونحن لا ننكر أن بعض الآراء باطل .

          وقوله : " اتهموا الرأي على الدين " غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه ، وليس فيه ما يدل على إبطاله .

          وقوله : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) المراد به استعمال الظن في مواضع اليقين لا أن المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة [52] .

          وأما قول ابن مسعود : ( إذا قلتم في دينكم بالقياس . . . ) الخبر ، يجب حمله على القياس الفاسد لما سبق ، وقوله : " ويتخذ الناس رءوسا جهالا " إلى آخره فالمراد [ ص: 53 ] به أيضا القياس الباطل ، ولهذا وصفهم بكونهم جهالا .

          وعلى ذلك يجب حمل قول عائشة في حق زيد بن أرقم ، وكذلك قول الشعبي ومسروق وابن سيرين ، جمعا بين النقلين كما سبق تقريره .

          قولهم : لا نسلم أن السكوت يدل على الموافقة .

          قلنا : دليله ما سبق في مسائل الإجماع .

          قولهم : لا نسلم أن إجماع الصحابة حجة قد دللنا عليه في مسائل الإجماع أيضا ، وما ذكروه من الفوادح في الصحابة فمن أقوال المبتدعة الزائغين كالنظام ومن تابعه من الرافضة الضلال ، وقد أبطلنا ذلك كله في كتاب ( أبكار الأفكار ) في المواضع اللائقة بذلك [53] .

          قولهم : إنه حجة ظنية ، قلنا : والمسألة أيضا عندنا ظنية .

          قولهم : ما المانع أن يكون عملهم بالأقيسة المنصوص على عللها ؟

          عنه أجوبة ثلاثة :

          الأول : أنه لو كان ثم نص لنقل كما ذكرناه في النصوص الدالة على الأحكام .

          الثاني : أنه إذا كانت العلة منصوصة ، فإن لم يرد التعبد بإثبات الحكم بها في غير محل النص ، فيمتنع إثباته لما يأتي في المسألة التي بعدها ، وإن ورد الشرع بذلك فالحكم يكون في الفرع ثابتا بالاستدلال ، أي بعلة منصوصة لا بالقياس على ما يأتي تقريره ، وعلى هذا فلا يكونون عاملين بالقياس .

          الثالث : أن ذلك يكون حجة على من أنكر القياس مطلقا وإن لم يكن حجة على النظام والقائلين بقوله .

          قولهم : لا يلزم أن يكون القياس حجة بالنسبة إلى غير الصحابة .

          قلنا : القائل قائلان : قائل يقول بالقياس مطلقا بالنسبة إلى الكل ، وقائل بنفيه مطلقا بالنسبة إلى الكل ، وقد اتفق الفريقان على نفي التفصيل [54] ، كيف وإنه حجة على من قال بنفيه مطلقا .

          [ ص: 54 ] وما ذكروه من المعارضة أما الآية الأولى فإنما تفيد أن لو لم يكن القياس مما عرف التعبد به من الله تعالى ورسوله ، وعند ذلك فيتوقف كون العمل بالقياس تقدما بين يدي الله ورسوله على كون الحكم به غير مستفاد من الله ورسوله ، وذلك متوقف على كون الحكم به تقدما بين يدي الله ورسوله ، فلا يكون حجة .

          وأما الآية الثانية والثالثة فجوابهما من ثلاثة أوجه :

          الأول : أنا نقول بموجب الآيتين ، وذلك لأنا إذا حكمنا بمقتضى القياس عند ظننا به ، فحكمنا به يكون معلوم الوجوب لنا بالإجماع لا أنه غير معلوم .

          الثاني : أنه يجب حمل الآيتين على النهي عن القول بما ليس بمعلوم على ما تعبدنا فيه بالعلم جمعا بينهما ، وبين ما ذكرناه من الأدلة .

          الثالث : أن الآيتين حجة على الخصوم في القول بإبطال القياس ، إذا هو غير معلوم لهم لكون المسألة غير علمية ، فكانت مشتركة الدلالة .

          وبمثل هذه الأجوبة يكون الجواب عن قوله تعالى : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ، وقوله : ( إن بعض الظن إثم ) ، وأما قوله تعالى : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، فنحن نقول بموجبه فإن من حكم بما هو مستنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل ، كيف وأن ذلك مع الرسول ؟ ولا يلزم من امتناع ذلك في حق الرسول لإمكان تعرفه أحكام الوقائع بالوحي امتناع ذلك في حق غيره [55] .

          وقوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، وقوله : ( فردوه إلى الله والرسول ) غير مانع من القياس ; لأن العمل بالمستنبط من قول الله وقول الرسول حكم من الله ورد إليه وإلى الرسول .

          وأما من قال بإبطال القياس ، فلم يعمل بقول الله وقول الرسول ولا بما استنبط منهما ، فكان ذلك حجة عليه لا له .

          وقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، [ ص: 55 ] وقوله : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) .

          فالمراد به أن الكتاب بيان لكل شيء إما بدلائل ألفاظه من غير واسطة ، وإما بواسطة الاستنباط منه أو دلالته على السنة والإجماع الدالين على اعتبار القياس ، فالعمل بالقياس يكون عملا بما بينه الكتاب لا أنه خارج عنه .

          كيف وإنه مخصوص بالإجماع ، فإنا نعلم عدم اشتماله على تعريف العلوم الرياضية من الهندسية والحسابية ، بل وكثير من الأحكام الشرعية [56] كمسائل الجد والإخوة ، وأنت علي حرام ، والمفوضة ، ومسائل العول ونحوه ، وعند ذلك فيجب حمله على أن ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام المبينة به لا تفريط فيها ; حذرا من مخالفة عموم اللفظ .

          وأما ما ذكروه من السنة في ذم الرأي ، فيجب حمله على الرأي الباطل كما ذكرناه جمعا بين الأدلة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية