الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            ص - والفقه : العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال .

            التالي السابق


            ش - الفقه لغة : الفهم . قال الله تعالى : لا تفقهون تسبيحهم أي لا تفهمون . وفي الاصطلاح ما ذكره . والعلم قد مر تفسيره .

            وقد يطلق على القدر المشترك بين الظن والتقليد واليقين ، وهو الاعتقاد الراجح . [ ص: 19 ] والأحكام سيأتي تفسيرها .

            والجهة الموجبة للنسبة إلى الشرع : كون تعلقاتها ، أو كون العلم بتعلقاتها مستفادا منه ، لا كون وجوداتها منه ، كما قيل ، فإنه غير صحيح ، لأن وجود الحكم متحقق قبل الشرع لكونه قديما .

            والجهة الموجبة للنسبة إلى الفرع : كون أدلتها التفصيلية متفرعة على الأدلة الأصولية ، أو كونها متعلقة بالعمل الذي هو فرع العلم .

            والأدلة التفصيلية : هي الأمارات . ومتعلق العلم إما أن يكون قائما بذاته ، أو لا . والأول : الذات ، كالجواهر . والثاني ، إما أن يكون مبتدأ للتغير ، أو لا .

            والأول : الأفعال . والثاني - إما أن يكون مقتضيا لنسبة مفيدة ، أو لا . والأول : الأحكام . والثاني : الصفات الحقيقية .

            فخرج بالأحكام : العلم بالذوات والصفات الحقيقية والأفعال . وبالشرعية : الأحكام العقلية . وبالفرعية : الأصولية . وبقوله : عن أدلتها [ ص: 20 ] التفصيلية : علم الله تعالى ورسوله ، وعلمنا بوجوب الصلاة والزكاة والحج ; لأن علمنا بهذه الأشياء ضروري غير محتاج إلى دليل .

            وبالاستدلال : اعتقاد المستفتي . والباقي قوله : " بالأحكام " متعلق بمحذوف تقديره : العلم المتعلق بالأحكام . وليس المراد من العلم بها تصورها ; لأنه من مبادئ أصول الفقه ، ولا التصديق بثبوتها في أنفسها ; فإنه من مسائل الكلام بل التصديق بكونها متعلقة بالأفعال . كقولنا : شرب النبيذ حرام ، والبيع حلال ، وأمثال ذلك .

            بقي ههنا بحث : وهو أن التصديق على الوجه المذكور بمعنى اليقين ، أو بمعنى الاعتقاد الراجح المتناول لليقين والظن والتقليد .

            قال بعض الشارحين : لو كان بمعنى اليقين - أي الاعتقاد الجازم المطابق ، لا لمحض التقليد ، وتعلق قوله : " عن أدلتها التفصيلية " بالفرعية - لم يدخل التقليد ; لأن اعتقاد المقلد غير يقيني .

            ويخرج علم الباري بـ " الاستدلال " لا بقيد " عن أدلتها التفصيلية " على تقدير تعلقها بالفرعية ; لأن تفرع الأحكام عن أدلتها التفصيلية لا يوجب تفرع العلم المتعلق بها .

            وفيه نظر ; لأن فرعية الأحكام عنها ، إما من حيث الوجود ، أو من حيث العلم . [ ص: 21 ] والأول باطل; ضرورة كون الحكم قديما ، والثاني يلزم تفرع العلم .

            والعجب أنه ذكر بعد هذا في شرحه أن الفرعية صفة للأحكام وهي باعتبار التصور ، لا باعتبار الوجود ; إذ عدم الأدلة لا يوجب عدمها ، وعدم الفرع مرتب على عدم الأصل ، فهي فرع باعتبار العلم بحصولها للأفعال .

            وأيضا - الأحكام ليست هي فرعا ، بل منسوبة إلى الفرع . والحق أن العلم بالمعنى الأعم .

            وقوله : " عن أدلتها التفصيلية " متعلق بالعلم . وبه خرج علم الله تعالى ورسوله ، وعلمنا بوجوب الصلاة والزكاة ; لأنه غير مستفاد من الأدلة .

            وما قيل : إن علم الله تعالى بالأحكام عن " الأدلة التفصيلية " ; لأن العلم بالعلة مستلزم للعلم بالمعلول ، فباطل ; لأن الأدلة لا تكون علة للأحكام ، بل تكون أمارات لها ، لما قيل : إن الدليل بالمعنى المذكور - وهو : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري - يمنع أن يكون علمه تعالى عن الأدلة ; ضرورة امتناع حصول العلم له بالنظر ; لأن ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه جاز أن يكون مستلزما للمطلوب الخبري ، من غير أن ينظر فيه . فلا يلزم من حصول علمه تعالى عن الأدلة ، حصوله بالنظر .

            [ ص: 22 ] فإن قيل : فعلى هذا قيد " الاستدلال " ضائع ; لأنه يخرج بقيد " عن أدلتها التفصيلية " علم الله تعالى ورسوله ، وعلمنا بوجوب الصلاة والزكاة والحج ، واعتقاد المستفتي ، لأنه ليس شيء منها حاصلا عن الأدلة التفصيلية !

            أجيب عنه بأنا لا نسلم أن اعتقاد المستفتي ليس بحاصل عن أدلتها التفصيلية . وذلك لأن اعتقاد المستفتي مستند إلى علم المفتي المستند إلى الأدلة التفصيلية . فاعتقاد المستفتي مستند إلى الأدلة التفصيلية .

            وقولنا : العلم الحاصل عن الأدلة التفصيلية لا يقتضي أن يكون حاصلا عنها بلا واسطة . فقوله : " بالاستدلال " يخرج اعتقاد المستفتي ; لأنه وإن كان حاصلا عنها ، لكنه ليس بالاستدلال .

            [ ص: 23 ] فإن قيل : ما قيل في عدم خروجه بقوله : " عن أدلتها التفصيلية " يمكن أن يقال في عدم خروجه بـ " الاستدلال " . أجيب بأن تقديره بالاستدلال عليه ، أي على العلم ، واعتقاد المستفتي لم يستدل عليه . هذا إذا أريد بالعلم المعنى الأعم .

            وأما إذا أريد بالعلم : اليقين ، يلزم بطلان التعريف من وجهين : الأول : أنه لم يتناول العلم حينئذ اعتقاد المستفتي ، فلم يحتج إلى قيد يخرجه ، فيكون قيد " الاستدلال " ضائعا .

            والثاني : أنه ترد الشبهة المشهورة ، وهي : أن الفقه من باب الظنون ; لأنه مستفاد من الأدلة الظنية . والمستفاد من الظني ظني ، فكيف يصح أن يكون علما . وما ذكروه في جوابه ضعيف .

            أما تقرير الجواب ، فهو أن يقال : إنا لا نسلم أن الفقه من باب الظنون ; لأن المراد بالعلم بالأحكام العلم بوجوب العمل بالأحكام ، وهو قطعي ; لأنه ثابت بدليل قطعي . وذلك لأن المجتهد إذا ظن الحكم ، حصل عنده مقدمتان قطعيتان . إحداها : أن هذا الحكم مظنون . وهي ضرورية . والثانية : أن كل ما هو مظنون وجب العمل به للإجماع ولأن الظن هو الحكم بالطرف الراجح . فإما أن يعمل به وبالطرف الآخر فيلزم الجمع بين النقيضين .

            [ ص: 24 ] أو لا بهذا ولا بذاك . فيلزم ارتفاع النقيضين . أو بالمرجوح فقط ، فيلزم ترجيح المرجوح ، وهو خلاف العقل . فتعين العمل بالطرف الراجح قطعا .

            ويلزم من هاتين المقدمتين قولنا : هذا الحكم يجب العمل به قطعا ، إلا أنه وقع الظن في طريقه ; لأنه وقع محمولا في الصغرى ، موضوعا في الكبرى . ولا يلزم من كون المحمول ظنا ، كون القضية ظنية .

            أما بيان ضعفه فمن وجوه : منها : أن الأحكام لا تدل على وجوب العمل بها إلا على سبيل المجاز ، والألفاظ المجازية لا تعتبر في [ التعريفات ] .

            فإن قيل : لا نسلم أن الألفاظ المجازية لا تعتبر في [ التعريفات ] فإن الحدود الناقصة والرسوم التامة والناقصة لا تدل على ماهية المحدود والمرسوم إلا بالمجاز .

            أجيب عنه بأن لفظ الحد الناقص والرسم ، لم يرد بهما المحدود والمرسوم ، وإلا لكان تعريفا للشيء بنفسه ، بل أريد منهما المفهوم المطابقي ودلالتهما على مفهومهما المطابقي بالحقيقة ، لا بالمجاز .

            ومنها : أن العلم بوجوب العمل بها مستفاد من الدليل الإجمالي ، والفقه من الأدلة التفصيلية .

            [ ص: 25 ] فإن قيل : لا نسلم أنه من الدليل الإجمالي ; لأن الصغرى في كل قياس مغايرة للصغرى في الآخر ; لأن المحكوم به - وهو قولنا " مظنون " - في كل منها يغاير المحكوم به في الآخر ; لأن ظن كل حكم مستفاد عن دليل خاص به ، فيكون مغايرا للظن الحاصل من دليل آخر . وتغاير الظن يوجب تغاير المظنون من حيث مظنون .

            أجيب عنه بأن التغاير بهذا الاعتبار غير كاف في كون الدليل تفصيليا .

            ومنها : أنه لا نسلم أن قولنا : " كل ما هو مظنون وجب العمل به " قطعي .

            قوله : للإجماع . قلنا : لا نسلم أن الإجماع يفيد القطع ; لأنه مبني على الأدلة الظنية ، والمبني على الظني ظني .

            ولئن سلمنا أن أدلة الإجماع قطعية ، لكن لا نسلم أن هذا الإجماع بلغ إلينا بالتواتر ، حتى يفيد القطع .

            والوجه الثاني في بيان قطعيته ضعيف ; لأنا لا نسلم أنه إذا لم يعمل بواحد من الطرفين ، يلزم رفع النقيضين في الواقع ; لجواز أن لا يعمل بواحد منهما لعدم الجزم به ، مع أن الواقع لا يخلو عن أحدهما .

            [ ص: 26 ] وأيضا - لا نسلم أنه إذا عمل بالمرجوح ، يلزم خلاف العقل ، وإنما يلزم ذلك أن لو كان المرجوح عند المجتهد ، مرجوحا في الواقع ، وهو ممنوع .

            لا يقال : إن الظن هو الحكم بالطرف الراجح في الواقع ; لأنا نقول : المراد بالراجح في الواقع ، إما أن يكون هو الثابت فيه أو غيره ، فإن كان الأول ، فلا نسلم أن الظن هو الحكم بالطرف الراجح ; لجواز كذبه . وإن كان الثاني فبينوه حتى يتصور أولا ثم يتكلم عليه ثانيا .

            ومنها : أنه يلزم انحصار جميع الفقه في الوجوب ، فيخرج عنه العلم بالندب والكراهة والحرمة والإباحة ، مع أنه من الفقه بالاتفاق .

            فإن قيل : التعرض للوجوب على سبيل التمثيل ; لأن المراد هو العلم بمقتضى الظن بالأحكام على الوجه المظنون . فإن ظن وجوبه علم وجوب العمل به ، وإن ظن حرمته علم حرمة العمل بها وكذا الباقي .

            أجيب عنه بأن القياس المذكور لا يفيد إلا وجوب العمل بمقتضى الظن .

            فإن قيل : المراد وجوب اعتقاد الحكم على الوجه المظنون; فإنه إذا كان الندب مظنونا وجب اعتقاد ندبيته . أجيب عنه بأنه لا دلالة لقوله : " العلم بالأحكام " على ذلك فحينئذ يكون التعريف فاسدا .




            الخدمات العلمية