الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        أ - نظر الإمام في الأمور المتعلقة بالدين .

        فأما نظره في الدين ، فينقسم إلى النظر في أصل الدين ، وإلى النظر في فروعه .

        [ ص: 184 ] فصل .

        واجب الإمام نحو أصل الدين .

        269 - فأما القول في أصل الدين فينقسم إلى : حفظ الدين بأقصى الوسع على المؤمنين ، ودفع شبهات الزائغين ، كما سنقرره إن شاء الله رب العالمين .

        وإلى دعاء الجاحدين والكافرين ، إلى التزام الحق المبين .

        فلتقع البداية الآن بتقرير سبيل الإيقان على أهل الإيمان ، فنقول والله المستعان : إن صفا الدين عن الكدر والأقذاء ، وانتفض عن شوائب البدع والأهواء ، كان حقا على الإمام أن يرعاهم بنفسه ورقبائه ، بالأعين الكالئة ، فيرقبهم بذاته وأمنائه بالآذان الواعية ، ويشارفهم مشارفة الضنين ذخائره ، ويصونهم عن نواجم الأهواء ، وهواجم الآراء ، فإن منع المبادي أهون من قطع التمادي .

        270 - فإن قيل : بم يزيغ عن المنهج المستقيم والدين القويم ؟ .

        قلنا : إن كان ما انتحله ذلك الزائغ النابغ ردة استتابه . فإن [ ص: 185 ] أبى واستقر وأصر ، تقدم بضرب رقبته . والقول في المرتد وحكمه يحويه كتاب من كتب الفقه ، فمن أراد الاحتواء على التفاصيل ، فليطلبه من فن الفقه .

        وإن تاب واتهمه الإمام بالاتقاء مع الانطواء على نقيض ما أظهره من التوبة ، فسيأتي ذلك عند القول في فروع الدين .

        271 - وإن كان ما صار إليه الناجم بدعة لا تبلغ مبلغ الردة ، فيتحتم على الإمام المبالغة في منعه ودفعه ، وبذل كنه المجهود في ردعه ووزعه ، فإن تركه على بدعته ، واستمراره في دعوته يخبط العقائد ، ويخلط القواعد ، ويجر المحن ويثير الفتن ، ثم إذا رسخت البدع في الصدور ، أفضت إلى عظائم الأمور ، وترقت إلى حل عصام الإسلام .

        272 - فإن قيل : إذا لم تكن البدعة ردة ، وأصر عليها منتحلها ، فبماذا يدفع الإمام غائلته ؟ .

        قلنا : سنعقد بابا في تقاسيم العقوبات ومراتبها ، وتفاصيلها ومناصبها ، ونعزي كل عقوبة إلى مقتضيها وموجبها ، وفيه يتبين المسئول عنه ، إن شاء الله عز وجل .

        [ ص: 186 ] 273 - فإن قيل : فصلوا ما يقتضي التكفير ، وما يوجب التبديع والتضليل .

        قلنا : هذا طمع في غير مطمع ; فإن هذا بعيد المدرك متوعر المسلك ، يستمد من تيار بحار علوم التوحيد ، ومن لم يحط بنهايات الحقائق ، لم يتحصل في التكفير على وثائق ، ولو أوغلت في جميع ما يتعلق به أطراف الكلام في هذا الكتاب ، لبلغ مجلدات ; ثم لا يبلغ منتهى الغايات . فالوجه البسط في مقصود هذا المجموع ، وإيثار القبض فيما ليس من موضوعه ، وإحالة الاستقصاء في كل شيء على محله وفنه .

        274 - فهذا كله فيه إذا أخذت البدع تبدو ، أو أمكن قطعها ، فأما إذا شاعت الأهواء وذاعت ، وتفاقم الأمر ، واستمرت المذاهب الزائغة ، واشتدت المطالب الباطلة ; فإن استمكن الإمام من منعهم لم يأل في منعهم جهدا ، ولم يغادر في ذلك قصدا ، واعتقد ذلك شوفه الأعظم ، وأمره الأهم ، وشغله الأطم ، فإن الدين أحرى بالرعاية ، وأولى بالكلاءة ، وأخلق بالعناية ، وأجدر بالوقاية ، وأليق بالحماية .

        [ ص: 187 ] وقد أدرجنا في أثناء ما قدمناه أن المقصود باهتمام الإمام الدين والنظر في الدنيا تابع على قطع ويقين ، باتفاق المسلمين .

        فإن لم يتمكن من دفعهم إلا بقتال ، واعتناق أهوال ، فسنذكر ذلك مستقصى في الباب المشتمل على تقاسيم العقوبات ، وضروب السياسات إن شاء الله عز وجل .

        وإذا كان الإمام يجر عساكر الإسلام إلى البغاة ، ومانعي الزكاة ، وأثر امتناعهم عن الطاعة ، والخروج عن ربقة الجماعة ، آيل إلى فرع الدين ، فما يئول إلى أصل الدين أولى باعتناء إمام المسلمين ، وسنقول ذلك مشروحا ، إن قدر الله عزت قدرته .

        فهذا إن كان الإمام مقتدرا على النابغين ، وصد الممتنعين المبتدعين .

        275 - وإن تفاقم الأمر ، وفات استدراكه الإطاقة ، وعسرت مقاومة ومصادمة ذوي البدع والأهواء ، وغلب على الظن أن مسالمتهم ومتاركتهم وتقريرهم على مذاهبهم وجه الرأي ، ولو [ ص: 188 ] جاهرهم لتألبوا وتأشبوا ، ونابذوا الإمام ، مكاوحين مكافحين ، وسلوا أيديهم عن الطاعة ، لخرج تدارك الأمور عن الطوق والاستطاعة ، وقد يتداعى الأمر إلى تعطيل الثغور في الديار ، واستجراء الكفار ، فإن كان كذلك ، لم يظهر ما يخرق حجاب الهيبة ، ويجر منتهاه عسرا وخيبة ، لكن إن أغمد عنهم صوارمه ، لم يكف عنهم صرائمه ، وعزائمه ، وتربص بهم الدوائر ، واضطرهم بالرأي الثاقب إلى أضيق المصائر ، وأتاهم من حيث لا يحتسبون ، وحرص أن يستأصل رؤساءهم ، ويجتث كبراءهم ، ويقطع بلطف الرأي عددهم ، ويبدد في الأقطار المتباينة عددهم ، ويحسم عنهم على حسب الإمكان مددهم ، ويعمل بمغمضات الفكر فيهم سبل الإيالة ، والمرء يعجز لا محالة .

        وهذا هين إذا لم يبدوا شراسا ، ولم ينصبوا للخروج على الإمام راسا ، فإذا وهت قوتهم ووهنت ، صال عليهم صولة تكفي [ ص: 189 ] شرهم ، وسطا بهم سطوة تمحق ضرهم ، كما سيأتي تفصيل القول في أنحاء حالة السياسات .

        276 - وإن انتهى الأمر إلى تفاقمهم على الإمام ، وخروجهم عن الطاعة ، فنذكر ذلك متصلا بباب السياسات ، عند تفصيلنا صفوف القتال ، وعلى الله الاتكال .

        277 - ولا يخفى على ذي بصيرة أن ما أطلنا القول فيه هو الحيد عن مسلك الحق في قواعد العقائد ، فأما اختلاف العلماء في فروع الشريعة ، ومسالك التحري والاجتهاد ، والتأخي من طرق الظنون ، فعليه درج السلف الصالحون ، وانقرض صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكرمون ، واختلافهم سبب المباحثة عن أدلة الشريعة ، وهو منة من الله تعالى ونعمة . وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اختلاف أمتي رحمة " فلا ينبغي أن يتعرض الإمام لفقهاء [ ص: 190 ] الإسلام فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام ; بل يقر كل إمام ومتبعيه على مذهبهم ، ولا يصدهم عن مسلكهم ومطلبهم .

        278 - فإن قيل : فما الحق الذي يحمل الإمام الخلق عليه في الاعتقاد إذا تمكن منه ؟ .

        قلنا : هذا لا يحوي الغرض منه أسطر وأوراق ، وفيه تنافس المتنافسون ، وكل فئة تزعم أنها الناجية ، ومن عداهم هالكون ، ولكن إن لم يكن هذا بالهين ، فمدرك الحق بين ، فمن أراد التناهي في ذلك ليكون قدوة وأسوة استحثته النفس الطلعة على نزف بحور ، ومقارعة شدائد وأمور ، وطي رقعة العمر على العناء والمضض والصبر .

        279 - ومن رام اقتصادا ، وحاول ترقيا عن التقليد واستبدادا ، فعليه بما يتعلق بعلم التوحيد من الكتاب المترجم بالنظامي ، فهو محتو على لباب الألباب ، وفيه سر كل كتاب ، في أساليب العقول .

        280 - والذي أذكره الآن لائقا بمقصود هذا الكتاب أن الذي يحرص الإمام عليه جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين ; قبل أن نبغت الأهواء ، وزاغت الآراء ; وكانوا - رضي الله عنهم - [ ص: 191 ] ينهون عن التعرض للغوامض ، والتعمق في المشكلات ، والإمعان في ملابسة المعضلات ، والاعتناء بجمع الشبهات ، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات ، ويرون صرف العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى ، وكف الأذى ، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة ، وما كانوا ينكفون - رضي الله عنهم - عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر ، وتبلد في القرائح . هيهات ، قد كانوا أذكى الخلائق أذهانا ، وأرجحهم بيانا ، ولكنهم استيقنوا أن اقتحام الشبهات داعية الغوايات ، وسبب الضلالات ، فكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلون ، وإليه مدفوعون . فإن أمكن حمل العوام على ذلك ، فهو الأسلم ، ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة ، الناجي منها واحدة " فاستوصفه الحاضرون الفرقة الناجية فقال : هم الذين كانوا على ما أنا عليه وأصحابي . ونحن على قطع واضطرار من عقولنا نعلم أنهم ما كانوا يرون الخوض في الدقائق ، ومضايق الحقائق ، ولا كانوا يدعون إلى التسبب إليها ، بل كانوا يشتدون على من يفتتح الخوض فيها .

        [ ص: 192 ] 281 - والذي يحقق ذلك أن أساليب العقول لا يستقل بها إلا الفذ الفرد المرموق الذي تثنى عليه الخناصر ، ويشير إليه الأصاغر والأكابر ، ثم هو على أغرار وأخطار ، إن لم يعصمه الله . فكيف يسلم من مهاوي الأفكار الغر الغبي ، والحصر العيي ؟ وكيف الظن بالعوام إذا اشتبكوا في أحابيل الشبهات ، وارتبكوا في ورطات الجهالات ؟ .

        282 - فليجعل الإمام ما وصفناه الآن أكبر همه ; فهو محسمة الفتن ، ومدعاة إلى استداد العوام على ممر الزمن ، فإن انبثت في البرية غوائل البدع ، واحتوت على الشبهات أحناء الصدور ، ونشر دعاة الضلالة أعلام الشرور ، فلو تركوا وقد أخذت منهم الشبهات مأخذها ، لضلوا وارتكسوا ، وذلوا وانتكسوا ، فالوجه - والحالة هذه - أن يبث فيهم دعاة الحق ، ويتقدم إلى المستقلين بالحقائق حتى يسعوا في إزاحة الشبهات بالحجج [ ص: 193 ] والبينات ، ويتناهوا في بلوغ قصارى الغايات ، وإيضاح الدلالات ، وارتياد أوقع العبارات ، ويدرءوا أصحاب الضلالات فيجتمع انحسام كلام الزائغين ، وظهور دعوة المتوحدين ، وإيضاح مسالك الحق المبين .

        وحكم الزمان الذي نحن فيه ما ذكرناه الآن ، والله المستعان .

        283 - وهذه تفاصيل من أحق ما يتعين على الإمام الاعتناء به ، وقد يختلف نظره في البلاد على حسب تباين أحوال العباد ، فيرى في بعضها الحمل على مذاهب السابقين ، وفي بعضها حمل دعاة الحق على إبداء مسالك الصدق ، وهذا مغاص يهلك فيه الأنام بزلة الإمام ، وقد اتفق للمأمون [ ص: 194 ] وكان في أمجد الخلفاء وأقصدهم - خطة ظهرت هفوته فيها ، وعسر على من بعده تلافيها ، فإنه رأى تقرير كل ذي مذهب على رأيه ، فنبغ النابغون ، وزاغ الزائغون ، وتفاقم الأمر وتطوق خطبا هائلا ، وانتهى زلله وخطله ، إلى أن سوغ للمعطلة أن يظهروا آراءهم ، ورتب مترجمين ليردوا كتب الأوائل إلى لسان العرب ، وهلم جرا ، إلى أحوال يقصر الوصف عن أدناها .

        ولو قلت : إنه مطالب بمغبات البدع والضلالات ، في الموقف الأهول في العرصات ، لم أكن مجازفا .

        284 - فالذي تحصل مما سلف بعد الإطناب ، ومجاوزة الاقتصاد إلى الإسهاب ، أن التعرض لحسم البدع من أهم ما يجب على الإمام [ ص: 195 ] الاعتناء به ، وقد قدمت في وجه الانتداب لذلك ما فيه مقنع وبلاغ .

        وجميع ما ذكرته قسم واحد فيما يتعلق بأصل الدين ، وهو حفظه على أهله .

        285 - والقسم الثاني في أصل الدين : السعي في دعاء الكافرين إليه فأقول : قد أيد الله عزت قدرته الدين بالبراهين الواضحة ، والحجج اللائحة ، وحفه بالقوة والعدة والشوكة والنجدة ، والإمام القوام على أهل الإسلام مأمور باستعمال منهاج الحجاج في أحسن الجدال ، فإن نجع ، وإلا ترقى إلى أعمال الأبطال المصطلين بنار القتال ، فللدعاء إلى الدين الحق مسلكان : أحدهما : الحجة وإيضاح المحجة .

        والثاني : الاقتهار بغرار السيوف ، وإيراد الجاحدين [ ص: 196 ] الجاهدين مناهل الحتوف .

        والمسلك الثاني مرتب على الأول ; فإن بلغ الإمام تشوف طوائف من الكفار إلى قبول الحق لو وجدوا مرشدا ، أشخص إليهم من يستقل بهذا الأمر من علماء المسلمين ، وينبغي أن نتخير لذلك فطنا لبيبا ، بارعا أريبا ، متهديا أديبا ، ينطبق على عرفانه بيانه ، ويطاوعه فيما يحاول لسانه ، ذا عبارة رشيقة ، مشعرة بالحقيقة ، وألفاظ رائقة مترقية عن الركاكة ، منحطة عن التعمق ، وشوارد الألفاظ ، مطبقة مفصل المعنى من غير قصور ولا ازدياد ، وينبغي أن يكون متهديا إلى التدرج إلى مسالك الدعوة ، رفيقا ملقا شفيقا ، خراجا ولاجا ، جدلا محجاجا ، عطوفا رحيما رءوفا .

        286 - فإن لم تنجح الدعوة ، وظهر الجحد والنبوة ، تطرق إلى [ ص: 197 ] استفتاح مسالك النجاح ، بذوي النجدة والسلاح ، وهذا يتصل الآن بذكر الجهاد ، وسيأتي ذلك على قدر مقصود الكتاب في أثناء الأبواب ، إن شاء الله عز وجل .

        فهذا منتهى الغرض في النظر الكلي في أصول الدين .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية