الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ فصل ] 366 - فأما الكلام في الفصل الثالث منها ، وهو أهمها . فالغرض ذكر ما تقتضيه الإيالة الشرعية ، والسياسة الدينية فيه ، إذا صفرت يد راعي الرعية عن الأموال ، والحاجات ماسة .

        فليت شعري ، كيف الحكم ( 136 ) وما وجه القضية ؟ فإن ارتقب الإمام حصول أموال في الاستقبال ، ضاع رجال القتال ، وجر ضياعهم أسوأ الأحوال .

        [ ص: 257 ] وإن استرسل في مد اليد إلى ما يصادفه من مال من غير ضبط أفضى إلى الانحلال ، والخروج عن الشرع في الأقوال والأفعال ، وقد قدمنا فيما سبق ، أنا لا نحدث لتربية الممالك في معرض الاستصواب مسالك ، لا يرى لها من شرعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مدارك .

        367 - فإن بلي الإمام بذلك فليتئد ، ولينعم النظر هنالك فقد دفع إلى [ خطبين عظيمين ] :

        [ أحدهما ] - تعريض الخطة للضياع . [ والثاني ] - أخذ أموال في غير إسناد استحقاقه إلى مستند معروف مألوف .

        والله ولي التوفيق والتيسير وهو بإسعاف راجيه جدير .

        368 - فنقول : إذا خلا بيت المال انقسمت الأحوال ، ونحن نرتبها على ثلاثة أقسام ، ونأتي في كل قسم منها بما هو مأخذ الأحكام .

        وطرح القضايا السياسية بالموجبات الشرعية ، فلا يخلو الحال ، وقد صفر بيت المال من ثلاثة أنحاء :

        [ ص: 258 ] أحدها - أن يطأ الكفار - والعياذ بالله - ديار الإسلام .

        والثاني - ألا يطئوها ، ولكنا نستشعر من جنود الإسلام اختلالا ، ونتوقع انحلالا وانفلالا ، لو لم نصادف مالا ، ثم يترتب على ذلك استجراء الكفار في الأقطار ، وتشوفهم إلى وطء أطراف الديار .

        والثالث - أن يكون جنود الإسلام في الثغور والمراصد على أهب وعتاد ، وشوكة واستعداد ، لو وقفوا ، ولو ندبوا للغزو والجهاد ، لاحتاجوا إلى ازدياد في الاستعداد ، وفضل استمداد ، ولو لم يمدوا لانقطعوا عن الجهاد ( 137 ) .

        فهذه التقاسيم قاعدة الفصل : فلنقل فيها أولا ، ولنذكر في كل قسم منها معولا ثم ننظر إلى ما وراءها والله المستعان على ما نحاوله من البيان .

        369 - فأما إذا وطئ الكفار ديار الإسلام ، فقد اتفق حملة الشريعة قاطبة على أنه يتعين على المسلمين أن يخفوا ويطيروا إلى مدافعتهم زرافات ووحدانا ، حتى انتهوا إلى أن العبيد ينسلون [ ص: 259 ] عن ربقة طاعة السادة ، ويبادرون الجهاد على الاستبداد .

        وإذا كان هذا دين [ الله عز وجل ، دين ] الأمة ، ومذهب الأئمة ، فأي مقدار للأموال في هجوم أمثال هذه الأهوال ، لو مست إليها الحاجة ، وأموال الدنيا لو قوبلت بقطرة دم ، لم تعدلها ، ولم توازنها .

        فإذا وجب تعريض المهج للتوى ، وتعين في محاولة المدافعة التهاوي على ورطات الردى ، ومصادمة العدا ، ومن أبدى في ذلك تمردا فقد ظلم واعتدى .

        370 - فإذا كانت الدماء تسيل على حدود الظبات ، فالأموال في هذا المقام من المستحقرات . وأجمع المسلمون أجمعون على أنه إذا اتفق في الزمان مضيعون فقراء مملقون تعين على الأغنياء أن يسعوا في كفايتهم ، وكذلك اتفقوا كافة على وجوب بذل الأموال في تجهيز الموتى وغيره من جهات فروض الكفايات ، فلاح على أبلغ وجه في الإيضاح أنه يجب على الأغنياء في هذا القسم أن يبذلوا فضلات أموالهم [ ص: 260 ] - كما سنفصل القول في ذلك إن شاء الله عز وجل - ، حتى تنجلي هذه الداهية ، وتنكف الفئة المارقة الطاغية ، ولا ينبغي أن يعقد الناظر الآن فكره بالتفصيل ; فأنا بعد في التأسيس والتأصيل .

        وسيأتي في شرح ذلك ما عليه التعويل إن شاء الله .

        فهذا بيان مقدار غرضنا الآن ، إذا وطئ الكفار بلاد الإسلام .

        371 - فأما إذا لم يجر ذلك بعد ، ولكنا نحاذره ونستشعره لانقطاع مواد الأموال ، واختلال الحال ، وإشارة الزمن إلى سوء المغبات في المآل ، ولو لم نتدارك ما نخاف وقوعه لوقع في غالب الظن ، فهذا الفن ملحق بالقسم الأول قطعا .

        ولا يحل في الدين تأخير النظر للإسلام والمسلمين إلى اتفاق استجراء الكافرين . ولو فرض في مثل هذا الحال توقف وتمكث ، لانحل العصام وانتثر النظام ، والدفع أهون من الرفع وأموال [ العالمين ] لا تقابل غائلة وطأة الكفار في قرية من [ ص: 261 ] قرى الديار ، وفيها سفك دم المسلمين ، أو امتداد يد إلى الحرم ، ولو وقع وتم ، فلا مستدرك لما انقضى وتقدم ، إلا التأسف وقرع سن الندم ، فإذن يلتحق هذا القسم بما تقدم .

        372 - فأما القسم الثالث - وهو ألا نخاف من الكفار هجوما ، لا خصوصا في بعض الأقطار ولا عموما .

        ولكن الانتهاض إلى الغزوات والانتداب للجهاد في البلاد يقتضي مزيد عتاد واستعداد ، فهل يكلف الإمام المثرين والموسرين أن يبذلوا ما يستعدون به ؟ هذا موقع النظر ، ومجال الفكر .

        ذهب ذاهبون إلى أنه لا يكلفهم ذلك ، بل يرتقب في توجيه العساكر ما يحصل من الأموال .

        373 - والذي أختاره قاطعا به أن الإمام يكلف الأغنياء من بذل فضلات الأموال ما تحصل به الكفاية والغناء ; فإن إقامة الجهاد فرض على العباد ، وتوجيه الأجناد على أقصى الإمكان والاجتهاد في البلاد محتوم لا تساهل فيه .

        وما أقرب تقاعدنا عنهم إلى مسيرهم إلينا واستجرائهم علينا .

        [ ص: 262 ] وإذا كنا لا نسوغ تعطيل شيء من فروض الكفايات ، فأحرى فنونها بالمراعاة الغزوات .

        والأمور في الولايات إذا لم تؤخذ من مباديها جرت أمورا يعسر تداركها عند تماديها .

        وقد أجرينا فيما تقدم أن الدنيا تبع الدين ، وأن صاحبنا بعث لتأسيس الدين ، وتأدية الرسالة ، والإبلاغ والاكتفاء من هذه الدنيا ببلاغ ، فمن عظائم الأمور ترك الأجناد ، وتعطيل الجهاد ، وانحصار العساكر في الثغور .

        374 - فإن قيل : قد ذكرتم أنه تمتد يد الإمام إلى أموال الموسرين عند الهم بتجهيز الأجناد إلى الجهاد ، فما قولكم فيه إذا كان مع المرتزقة كفايتهم وعدتهم في إقامتهم ونهضتهم ، ومرابطتهم وغزوتهم ، في أوانها وإبانها ولكن خلا بيت المال [ ص: 263 ] أو كاد أن يخلو وخاف الإمام غائلة هائلة من خلو بيت المال عند [ عكرة الكفار ] ، أو دبرة على المجاهدين ؟

        فقد تقدم القول النافع الواقع في وجوب الاستظهار بالذخائر ، وتنزيل إعداد المال منزلة إعداد الرجال ، ولو وهت كفاية الرجال ، امتدت يد الإمام إلى الأموال . والذخيرة إحدى العدتين . فما الوجه في ذلك ؟

        375 - قلت : هذا الآن دون التقسيم الأخير الذي تقرر نجازه فإن المرتزقة ، إذا لزموا الثغور والمراصد ، وتقاعدوا عن الانبعاث إلى المقاصد ، كان ذلك متضمنا تعطيل الجهاد ناجزا .

        وفيه خصلة أخرى ، وهي أن معظم أموال بيت المال مما تحويه أيدي المسلمين من أموال الكافرين فإذا انقطع ( 140 ) الجهاد ، [ ص: 264 ] انقطع بانقطاعه وجوه الأموال التي تنصب إلى بيت المال ، ويتداعى ذلك إلى اختلال وانحلال ، يتعذر معه المرابطة ; فإن المؤن إذا كانت دارة بجمامها ، وقد [ أكدت ] المطالب ، وعسرت وجوهها ; لم يخف على ذي نظر في العواقب - إفضاء الأمر على قرب وكثب ، إلى انقطاع أصل السبب .

        376 - والقيم المنصوب في مال طفل مأمور بألا [ يقصر ] نظره على ضرورة حالة ، بل ينظر في حاله باستنماء ماله ، وطلب الأغبط ، فالأغبط في جميع أمواله وليس أمر كلي [ الملة ] بأقل من أمر طفل ، ولا نظر الإمام القوام على خطة الإسلام بأقصر نظرا وفكرا من قيم .

        وهذا واضح لا خفاء بمدركه عند انقطاع الجهاد . فأما إذا كان جنود الإسلام مشمرين للجهاد ، فالوجوه التي [ ص: 265 ] منها تنتظم الأموال غير منحسمة ، والأحوال متسقة منتظمة فيبعد تنجيز التعرض لأموال الناس لأمر مقدر على نأي وبعد .

        ولا ينجلي هذا الفصل حتى أذكر بعون الله وتأييده وتوفيقه وتسديده أمرا يوضح الانفصال عما تضمنه هذا السؤال من الإشكال . ولكن الذي ذكرته الآن فيه بلاغ واستقلال .

        377 - فإن قيل : قد ذكرتم في التقاسيم التي قدمتم أن الإمام يستمد من أموال الأغنياء ، فأبينوه وفصلوه ، وبوحوا بالغرض [ وحصلوه ] وأوضحوا المآخذ والوجوه .

        قلنا : قد انتهى الكلام في مقصود الفصل إلى غمرة تغرق الجهول ، وتحير العقول ، وما أراها تخيض إلا من كان التوفيق مطيته والابتهال إلى الله طويته ، والتبحر في بحور العلوم عدته ، وينبغي أن ننبه على خطره وغرره ، ثم نندفع في درر الكلام وغرره ، فالخائض فيما انتهى الكلام ( 141 ) إن لم يعصم ، ولم يثبت منه القدم ، بين شوفين عند الالتفات إلى طرفين : فإن وقع [ ص: 266 ] نظره في الانكفاف عن الأموال ، التزم مصير الإسلام إلى أسوأ المصاير والأحوال .

        وإن استرسل في إطلاق الأيدي في الأموال من غير اقتصاد ، انتصب إلى إحداث مطالبات كلية لا أصل لها في القضايا الشرعية .

        وقد تقدم أن التدابير إذا لم يكن لها عن الشرع صدر فالهجوم عليها خطر . ثم قصاراها إذا لم تكن مقيدة بمراسم الإسلام ، مؤيدة بموافقة مناظم الأحكام - ضرر .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية