الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 274 ] فصل 391 - أحدها - أن من الناس من ذهب إلى أن الإمام يأخذ ما يأخذه في معرض الاقتراض على بيت المال على كل حال ، فإن [ ثابت ] مداره ومجالبه ، تعين رد ما اقترض . و [ المقرض ] يطالبه .

        392 - وقال قائلون : إن عمم بالاستيداء مياسير البلاد ، والمثرين من طبقات العباد ، فلا مطمع في الرد والاسترداد ، وإن خصص بعضا ، لم يكن ذلك إلا قرضا .

        ونحن نذكر ما يتعلق به كل فريق ، ثم نذكر مسلك التحقيق .

        393 - فمن قال : الإمام يستقرض استمسك بأن أقدار الواجبات مضبوطة الجهات في قواعد الدين ومذاهب المسلمين ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أضاق المحاويج والفقراء ، استسلف من [ ص: 275 ] الأغنياء ، وربما استعجل الزكوات ، فلو كان يسوغ الأخذ من غير اقتراض ، لكان عليه السلام بينه ليقتدي به من بعده عند فرض الإضاقة .

        وربما تعلق هؤلاء بأن مآخذ الأموال لو تعدت الطرق المضبوطة ، والمسالك الموضحة في الشريعة ، لانبسطت ( 146 ) الأيدي إلى الأموال ، ويجر ذلك فنونا من الخبال ، ولم يثق ذو مال بماله لا في حاله ، ولا في مآله ، وهذا خروج عن ضبط الدين ، وحل لعصام الإسلام عن أموال المسلمين .

        394 - والمرضي عندي أن ذلك جبن وخور وذهول عن سنن النظر فإن للإمام أن يأخذ من الجهات التي ذكرناها ما يراه سادا للحاجة على ما قدمنا منهاجه ، ولا يلزمه الاستقراض سواء فرض أخذه من معينين ، أو من المياسير أجمعين .

        والدليل عليه أنا لو فرضنا خلو الزمان عن مطاع ، لوجب على المكلفين القيام بفرائض الكفايات ، من غير أن يرتقبوا مرجعا ، فإذا وليهم إمام فكأنهم ولوه أن يدبرهم تعيينا وتبيينا ، فيما كان فرضا بينهم فوضى ، ولولاه لأوشك أن يتخاذلوا ، ويحيل البعض الأمر فيه على [ ص: 276 ] البعض ثم تنسحب المآثم على كافتهم ، والإمام القوام يدفع التخاذل والتغالب ، ويحمل الأعيان على التناوب فيما على الكافة [ الخروج ] عن عهدته .

        والذي يوضح المقصد أنه لو استقرض ، لكان يؤدي ما اقترضه من مال فاضل مستغنى عنه في بيت المال ، وربما تمس الحاجة إلى ما يقدره في الحال فاضلا ، ثم يقتضي الحال استرداد ما وفيناه على المقرض ، ويستدبر التدبير ، فلا يزال في رد واسترداد ، وما أدى إلى التسلسل ، فهو في وضعه لا يتحصل .

        395 - والذي يجب التعويل عليه أن كل واقعة وقعت في الإسلام تعين على ملتزمي الإسلام أن يقيموا أمر الله فيها ، إما بأنفسهم إذا فقدوا من يليهم ، أو بأن يتبعوا أمر واليهم .

        فإذا امتثلوا أمر الله بأنفسهم ، أو بأموالهم على تفنن أحوالهم ، فارتقابهم ( 147 ) رجوعا في مالهم يشعر بأنهم ما كانوا متأصلين فيما كلفهم ربهم .

        وهذا ظن كاذب ورأي غير صائب ، فالمسلمون هم المخاطبون ، والإمام في التزام أحكام الإسلام كواحد من الأنام ، ولكنه [ ص: 277 ] مستناب في تنفيذ الأحكام ، فإذا نفذت ، فلا مطمع في مرجع ، فإن در لبيت المال مال ، فحظ المسلمين منه تهيؤه للحاجات في مستقبل الأوقات .

        فهذا منتهى القول في هذا الفن .

        396 - وأقول الآن : لست أمنع الإمام من الاقتراض على بيت المال ، إن رأى ذلك استطابة للقلوب ، وتوصلا إلى تيسير الوصول إلى المال ، مهما اتفقت واقعة أو هجمت هاجمة .

        والذي قدمته ليس تحريما للاستقراض ، ولكنه تمهيد لما يسوغ للإمام أن يفعله ، والأمر موكول إلى رأيه ، أو استصوابه في افتتاح كل أمره ومآبه .

        والجملة في ذلك أنه إذا ألمت ملمة ، واقتضى إلمامها مالا ، فإن كان في بيت المال مال ، استمدت كفايتها من ذلك المال ، وإن لم يكن في بيت المال مال ، نزلت على أموال كافة المسلمين ، فإذا كفيت من أموالهم ، فقد انقضت ، وانقطعت تبعاتها ، وعلائقها ، فإذا حدث مال ، تهيأ ما حدث للحوادث ، [ المستقبلة ] [ ص: 278 ] فهذه معضلات لا يستد فيها إلا مؤيد ولا يطبق مفصل الحق فيها إلا مسدد .

        397 - فإن قيل : قد ذكر الفقهاء أن من معه طعام إذا وجد مضطرا إليه واقعا في المخمصة ، مشفيا على الهلاك ، لم يلزم مالك الطعام بذله من غير بدل ، وإحياء المهج من فروض الكفايات على مجرى الأوقات ، وقد يتعين على الإنسان في بعض الأزمان إذا انفرد بالانتهاء إلى مضطر أن يبذل [ كنه ] الجد ( 148 ) ويستفرغ غاية الوسع في إنقاذه ، ثم لا يجب التبرع والتطوع بالبذل .

        قلنا : هذه المسألة عندنا فيه إذا كان للمضطر مال غائب أو حاضر ، فأما إذا كان لا يملك شيئا فيجب سد جوعته ، ورد خلته ، من غير التزامه عوضا .

        ولا أعرف خلافا أن سد خلات المضطرين في شتى المجاعات ، محتوم على الموسرين ، ثم لا يرجعون عليهم إذا انسلوا من تحت كلاكل الفتن .

        وفقراء المسلمين بالإضافة إلى متوسليهم كالابن الفقير في حق أبيه ، ليس للأب الموسر أن يلزم ابنه الاستقراض منه إلى أن [ ص: 279 ] يستغني يوما من الدهر ، ولو كان لولده مال غائب أقرض ولده أو استقرض له إن كان موليا عليه .

        والذي يكشف الغطاء فيه أن من رأى مسلما مشرفا على حريق أو غريق ، واحتاج إنقاذه إلى إنقاذ سببه ، وإكداد حدبه لم يجد في مقابلة سعيه .

        398 - وما ذكره الأولون من استسلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند مسيس الحاجات ، واستعجاله الزكوات ، فلست أنكر جواز ذلك ، ولكني أجوز الاستقراض عند اقتضاء الحال ، وانقطاع الأموال ، ومصير الأمر إلى منتهى يغلب الظن فيه استيعاب الحوادث لما يتجدد في الاستقبال .

        399 - وأما ما ادعوه من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأخذ إلا وظيفة حاقة في أوان حلولها أو يستقرض ، فهذا زلل عظيم ، فإنه كان إذا حاول تجهيز جند أشار على المياسير من أصحابه بأن يبذلوا [ ص: 280 ] فضلات أموالهم ، والأقاصيص المأثورة المشهورة في ذلك بالغة مبلغ التواتر ، وكانوا رضي الله عنهم ( 149 ) يتبادرون ارتسام مراسم الرسول - عليه السلام - على طواعية وطيب أنفس ، ويزدحمون على امتثال الأوامر حائزين به أكرم الوسائل ، ازدحام الهيم العطاش على المناهل ، وكانت مبادئ إشاراته أنجع في قلوب الناس من سيوف أهل النجدة والبأس في أهل العناد والشراس .

        400 - وما شبهوا به من أداء الأمر إلى إخلال وإفضائه إلى امتداد الأيدي إلى الأموال فلا احتفال بالأموال عند إطلال الأهوال على بيضة الإسلام ، ولا يسوغ أخذ الأموال على الإهمال هزلا من غير استفصال .

        فإن سئلنا الدليل ، فقد قدمنا ما فيه أكمل مقنع وبلاغ .

        فهذا نجاز الغرض من هذا الفصل ، وهو أحد الفصول الثلاثة الموعودة بعد تمهيد الأصول .

        فأما .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية