الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس ، بين القرآن [ ص: 39 ] بطلانه ، كما في قوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ( المؤمنون : 91 ) . فتأمل هذا البرهان الباهر ، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر . فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا ، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر ، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه ، لكان له خلق وفعل ، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة ، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل ، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق ، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه ، إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه . فلا بد من أحد ثلاثة أمور :

إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه .

وإما أن يعلو بعضهم على بعض .

وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ، ولا يتصرفون فيه ، بل يكون وحده هو الإله ، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه .

وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره ، من أدل دليل على أن مدبره إله واحد ، وملك واحد ، ورب واحد ، لا إله للخلق غيره ، ولا رب لهم سواه . كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد ، لا رب غيره ولا إله سواه ، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد ، وهذا تمانع في [ ص: 40 ] العبادة والإلهية . فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان ، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان .

فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته ، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه ، فكذا تبطل إلهية اثنين . فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية ، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية .

وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء : 22 ) . وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره ، وهو أنه لو كان للعالم صانعان . . . . . الخ ، وغفلوا عن مضمون الآية ، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره ، ولم يقل : أرباب .

وأيضا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما ، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا .

وأيضا فإنه قال : لفسدتا ، وهذا فساد بعد الوجود ، ولم يقل : لم يوجدا .

ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة ، بل لا يكون الإله إلا الواحد ، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى ، وأن فساد السماوات والأرض يلزم من كون [ ص: 41 ] الآلهة فيهما متعددة ، ومن كون الإله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره . فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله ، فإن قيامه إنما هو بالعدل ، وبه قامت السماوات والأرض .

وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك ، وأعدل العدل التوحيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية