الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويتلخص من أدلتها : أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت .

فمنها : أرواح في أعلى عليين ، في الملأ الأعلى ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، وهم متفاوتون في منازلهم .

[ ص: 585 ] ومنها أرواح في حواصل طير خضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء ، لا كلهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه . كما في المسند عن عبد الله بن جحش : أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : ما لي إن قتلت في سبيل الله ؟ قال : الجنة ، فلما ولى ، قال : إلا الدين ، سارني به جبريل آنفا .

ومن الأرواح من يكون محبوسا على باب الجنة ، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة

[ ص: 586 ] ومنهم من يكون محبوسا في قبره ، ومنهم من يكون في الأرض ، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، كل ذلك تشهد له السنة ، والله أعلم .

وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره ، في قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [ آل عمران : 169 ] وقوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [ البقرة : 154 ] - [ فهي ] : أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر . كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم - يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذللة في ظل العرش الحديث ، رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وبمعناه في حديث ابن مسعود ، رواه مسلم .

[ ص: 587 ] فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه ، أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها ، تكون فيها إلى يوم القيامة ، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان ، أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها .

ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير ، أو كطير ، ونسمة الشهيد في جوف طير . وتأمل لفظ الحديثين ، ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه .

فقوله نسمة المؤمن تعم الشهيد وغيره ، ثم خص الشهيد بأن قال : هي في جوف طير خضر ، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير ، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار ، [ ص: 588 ] فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم ، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم ، فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه ، والله أعلم .

وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، كما روي في السنن . وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير ، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره ، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة ، والله أعلم . وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل ، والشهيد أفضل ، كان بقاء جسده أطول .

التالي السابق


الخدمات العلمية