الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ( تنبيهات ) )

( ( الأول ) ) قال سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس ، فالتأويل في الأدلة السمعية ، والقياس في الأدلة العقلية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - وهو كما قال : والتأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة ، والقياس الخطأ إنما يكون في [ ص: 207 ] المعان المتشابهة . قال شيخ الإسلام : وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود ، وهذا غاية الضلال والهذيان .

ثم قال شيخ الإسلام - روح الله روحه - : ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرف ، لأنه الصادق المصدوق ، فما جاء في الكتاب والسنة وجب على كل مؤمن الإيمان به ، وإن لم يفهم معناه ، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها ، مع أن هذا الباب يوجد عامته منصوصا في الكتاب والسنة ، متفقا عليه بين سلف الأمة ، وما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا ، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظ أو نفيه ، حتى يعرف مراده ، فإن أراد حقا قبل ، وإن أراد باطلا رد ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه ، بل يوقف اللفظ ، ويفسر المعنى .

قال : كما تنازع الناس في الجهة ، فلفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله ، فيكون مخلوقا كما إذا أريد بالجهة نفس العرش ، أو نفس السماوات ، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم والمعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه كما فيه إثبات العلو والاستواء والفوقية والعروج إليه ونحو ذلك .

وقد علم أنه ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق ، والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، فيقال لمن نفى أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق فالله ليس داخلا في المخلوقات ، أم تريد بالجهة ما وراء العالم ، فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات .

وكذلك يقال لمن قال الله في جهة أتريد بذلك أن الله فوق العالم ، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات ، فإن أردت الأول فهو حق ، وإن أردت الثاني فهو باطل ، وكذلك لفظ المتحيز إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات ، فالله أعظم وأكبر ، قد وسع كرسيه السماوات والأرض ، وقد قال تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ) وقد ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : [ ص: 208 ] " يقبض الله الأرض ، ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول ، أنا الملك ، أين ملوك الأرض " وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : " ما السماوات السبع ، والأرضون السبع ، وما فيهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم " .

وفي حديث آخر : " وإنه ليدحوها كما يدحو الصبيان بالكرة " قال وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها ومنفصل عنها ليس حالا فيها فهو سبحانه كما قال أئمة السنة : فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه . كما ذكره في التدمرية .

وقال شيخ الإسلام في التدمرية أيضا : أما علوه تعالى ومباينته للمخلوقات فيعلم بالعقل . وأما الاستواء على العرش فطريق العلم به هو السمع ، وليس في الكتاب والسنة وصف له بأنه لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا مباينه ولا مداخله ، فيظن المتوهم أنه إذا وصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفلك والأنعام ، كقوله : وسخر لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره فيتخيل أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه كحاجة المستوي على الفلك والأنعام ، فتعالى الله وتقدس ، فهذا خطأ في مفهوم استوائه تعالى على العرش حيث ظن أنه مثل استواء الإنسان ، فإنه ليس في اللفظ ما يدل على ذلك ؛ لأنه تعالى أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته فذكر أنه خلق ثم استوى ، كما ذكر أنه قدر فهدى ، فلم يذكر استواء مطلقا يصلح للمخلوق ، ولا عاما يتناول المخلوق ، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته .

وقد علم أنه تعالى الغني عن الخلق ، وأنه الخالق للعرش ولغيره ، وإن كل ما سواه مفتقر إليه ، وهو الغني عن كل ما سواه ، فكيف يجوز أن يتوهم أنه تعالى إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، هل هذا جهل محض ، وضلال ممن فهم ذلك وتوهمه ، أو ظنه ظاهر اللفظ ، أو جوزه على رب العالمين الغني عن الخلق المجيد المتعال .

التالي السابق


الخدمات العلمية