الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الثالث : في بعض ما ورد في ذم القدرية من الآثار ، والأخبار ، وما رده عليهم من الصحابة الأخيار ، والأئمة الأبرار . روى مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي عن يحيى بن يعمر ، قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين ، أو معتمرين ، فقلنا : لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر ، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي ، أحدنا عن يمينه ، والآخر عن شماله ، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي ، فقلت : أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتفقدون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر ، وأن الأمر أنف ، فقال : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر - ثم ساق حديث جبريل - عليه السلام - وفيه " وتؤمن بالقدر خيره وشره - زاد في رواية - وحلوه [ ص: 303 ] ومره " الحديث ، وفي راوية أبي داود عن يحيى بن يعمر ، وحميد بن عبد الرحمن قالا : لقينا ابن عمر فذكرنا له القدر وما يقولون فيه فذكرا نحوه ، وزاد قال : وسأله رجل من مزينة ، أو جهينة فقال : يا رسول الله فيم نعمل ؟ في شيء خلا ومضى ، أو شيء مستأنف ؟ " قال : في شيء خلا ومضى - فقال الرجل ، أو بعض القوم : ففيم العمل ؟ قال : " إن أهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وإن أهل النار ميسرون لعمل أهل النار " وعند أبي داود أيضا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأصله في الصحيحين ، وفيه قال : يا محمد أخبرني عن الإيمان قال : " أن تؤمن بالله وملائكته ، والكتاب ، والنبيين ، وتؤمن بالقدر " قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم " قال : صدقت .

وأخرج الترمذي من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني محمد رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر " .

وفي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شيء قضي عليهم ، ومضى عليهم من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم ، ويثبت الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شيء مضى عليهم ، وقضي عليهم . قال : فقال : فلا يكون ظالما ؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : كل شيء خلق الله وملك الله فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون . فقال : رحمك الله ، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك ، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون ، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم ؟ وتصديق ذلك في كتاب الله - تعالى - : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وفي أوسط الطبراني عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا " القدر نظام التوحيد ، فمن وحد الله وآمن بالقدر فقد استمسك بالعروة الوثقى " وأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا " القدر سر الله " وفي الجامع الكبير عن الحارث ، قال : جاء [ ص: 304 ] رجل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : طريق مظلم لا تسلكه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : بحر عميق لا تلجه ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر ، قال : سر الله خفي عليك فلا تفشه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر - وساق الكلام في جواب السائل ، إلى أنه قال : أيها السائل تقول : لا حول ولا قوة إلا بمن ؟ قال : إلا بالله العلي العظيم ، قال : أفتعلم ما في تفسيرها ؟ قال : تعلمني مما علمك الله يا أمير المؤمنين ، قال : إن تفسيرها لا يقدر على طاعة الله ، ولا تكون له قوة في معصية الله ، في الأمرين جميعا إلا بالله ، أيها السائل ألك مع الله مشيئة ، أو فوق الله مشيئة ، أو دون الله مشيئة ؟ فإن قلت : إن لك دون الله مشيئة ، اكتفيت بها عن مشيئة الله ، وإن زعمت أن لك فوق الله مشيئة ، فقد ادعيت أن قوتك ومشيئتك غالبتان على قوة الله ومشيئته ، وإن زعمت أن لك مع الله مشيئة ، فقد ادعيت مع الله شركا في مشيئته . الأثر المروي بطوله ، والأخبار والآثار في هذا الباب كثيرة جدا .

وأما ذم القدرية فقد أخرج أبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه عن أبي عبد الرحمن بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " القدرية مجوس هذه الأمة " ورواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ، قال الحافظ ابن حجر : ورجاله من رجال الصحيحين ، لكن ذكر الحافظ المنذري أن في سنده انقطاعا ، وقد أجاب عنه بأن أبا الحسن بن القطان الفاسي الحافظ صحح سنده ، وقال : إن أبا حازم عاصر ابن عمر وكان معه بالمدينة ، ومسلم يكتفي في الاتصال بالمعاصرة ، فهو صحيح على شرط مسلم . قلت : وقد أخرج الحديث الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه " الموضوعات " من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن لكل أمة مجوسا ، ومجوس هذه الأمة القدرية ، فلا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا " رواه ابن عدي .

وحكم عليه بالوضع ، وتعقبه الجلال السيوطي بأن جعفر بن الحارث الذي أعله به قد وثقه ابن عدي ، فقال : لم أر في أحاديثه حديثا منكرا ، أرجو أنه لا بأس [ ص: 305 ] به . وقال البخاري : حفظه سيئ يكتب حديثه ، والحديث ورد بهذا اللفظ من حديث حذيفة أخرجه أبو داود ، وجابر بن عبد الله أخرجه ابن ماجه ، وعبد الله بن عمر أخرجه الإمام أحمد ، والبخاري في تاريخه في الأوسط ، واللالكائي في السنة ، بعضها على شرط الصحيح ، وسهل بن عبد الله أخرجه الطبراني في الأوسط ، واللالكائي أيضا ، وأنس أخرجه الطبراني ، وابن عباس أخرجه اللالكائي ، وورد عن عمر موقوفا أخرجه اللالكائي .

وأقول : قد روى الطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه ، والحاكم ، وقال : صحيح الإسناد ، قال الحافظ المنذري : ولا أعرف له علة عن أم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ستة لعنتهم ولعنهم كل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله - عز وجل ، والمكذب بقدر الله ، والمتسلط على أمتي بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أزل الله ، والمستحل حرمة الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والتارك للسنة " وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا " تكون قدرية ثم تكون زنادقة ثم تكون مجوس ، وإن لكل أمة مجوسا ، وإن مجوس أمتي المكذبة بالقدر ، فإن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ، ولا تتبعوا لهم جنازة " قال الخاطبي : إنما جعلهم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين ، وهما النور والظلمة ، يزعمون أن الخير من فعل النور ، والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية ، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله ، والشر إلى غيره ، والله - تعالى - خالق الأمرين معا .

وكذا قال ابن الأثير في جامع الأصول : القدرية في إجماع أهل السنة والجماعة هم الذين يقولون : إن الخير من الله ، والشر من الإنسان ، وإن الله لا يريد أفعال العصاة ، وسموا بذلك ; لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله - تعالى - ، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه ، قال : وهؤلاء مع ضلالتهم يضيفون الاسم إلى مخالفهم من أهل الهدى ، فيقولون : أنتم القدرية حين تجعلون الأشياء جارية بقدر من الله ، وإنكم أولى بهذا [ ص: 306 ] الاسم منا لأنكم تثبتون القدر ، ونحن ننفيه ، ومثبته أحق بالنسبة إليه من نافيه ، فأنتم الداخلون تحت وعيد الحديث دوننا . فأجابهم المثبتون بأنكم أولى بذلك ; لأنكم تثبتون القدر لأنفسكم ونحن ننفيه عن أنفسنا ، ومثبت الشيء لنفسه أولى بالنسبة إليه ممن نفاه عن نفسه ، وأيضا هذا الحديث يبطل ما قالوه ، فإنه قال - صلى الله عليه وسلم - : " القدرية مجوس هذه الأمة " ومعنى ذلك أنهم لمشابهتهم المجوس في مذهبهم وقولهم بالأصلين ، وهما النور والظلمة .

وتقدم كلام شيخ الإسلام ، فلا يهمل ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية