الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( ( وكل داع لـ ) ) انتحال ( ( ابتداع ) ) مكفر من بدع الضلال ، ذكر القاضي وأصحابه من علماء المذاهب رواية عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - : لا تقبل توبة داعية إلى بدعة مضلة ، واختارها أبو إسحاق بن شاقلا ، وفي الرعاية : من كفر ببدعة قبلت توبته على الأصح ، وقيل : إن اعترف بها ، وقيل : لا تقبل من داعية ، والمذهب تقبل توبة من كفر ببدعة : ولو داعية خلافا لابن حمدان والبلياني في عقيدتيهما .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - : قد بين الله - تعالى - أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع . قال شيخ مشايخنا بدر الدين البلياني في مختصر عقيدة ابن حمدان : ولا تقبل - يعني التوبة - ظاهرا من داعية إلى بدعته المضلة ، ولا من ساحر وزنديق وهو المنافق ، ولا ممن تكررت ردته ; ولذا قال : ( ( يقتل ) ) الداعية لبدعته المضلة لعدم قبول توبته ظاهرا ، كالدرزي ، والزنديق وسائر طوائف المنافقين ( ( كمن ) ) أي كمكلف ( ( تكرر نكثه ) ) أي نقضه للإسلام بأن تكررت ردته ، واتجه العلامة الشيخ مرعي في غايته أن أقل تكرار ثلاث . قال في النهاية : النكث [ ص: 396 ] نقض العهد ، والاسم النكث بالكسر ( ( لا يقبل ) ) منه بعد تكرر ردته منه - الإسلام على ظاهر المذهب ; لظاهر قول الله - تعالى - : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا وقوله : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ، والازدياد يقتضي كفرا متجددا ، أو لا بد من تقديم إيمان عليه . ولما روى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة أن ابن مسعود - رضي الله عنه - أتي برجل فقال له : إنه قد أتي بك مرة ، فزعمت أنك تبت ، وأراك قد عدت فقتله ; ولأن تكرار الردة منه يدل على فساد عقيدته ، وقلة مبالاته بالدين ، والسبب في عدم قبول توبة نحو المنافق ( ( لأنه لم يبد ) ) للعيان ظاهرا ( ( من إيمانه ) ) الذي زعم أنه أتى به ودخل به إلى الإسلام ، والدين القويم ( ( إلا الذي أذاع ) ) أي أظهر ونشر قبل توبته ( ( من لسانه ) ) مع عدم اعتقاده للإسلام ، فلم يزد على ما كان يقوله ويأتي به ويذيعه في حال كفره ، وكتمانه للعقيدة الفاسدة ، والنحلة الباطلة ، والكفر المستور - شيئا ، وقد قال - تعالى - : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا وهؤلاء لا يظهر منهم على ما تبين به رجوعهم فلا يظهر منهم بالتوبة خلاف ما كانوا عليه ، فإنهم كانوا ينفون عنهم الكفر قبل ذلك ، وقلوبهم لا يطلع عليها ، فلا يكون لما قاله حكم ; لأن الظاهر من حال هؤلاء أنهم إنما سيدفعون عنهم القتل بإظهار التوبة إذا بدا منهم ما يؤخذون به ( ( كـ ) ) ما لا يقبل إيمان ( ( ملحد ) ) مأخوذ من الإلحاد ، وهو الميل والعدول عن الشيء ، ومنه حديث طهفة " لا يلطط في الزكاة ولا يلحد في الحياة " أي لا يجري منكم ميل عن الحق ما دمتم أحياء ، قال في النهاية : ورواه القتيبي " لا تلطط ولا تلحد " على النهي للواحد ، قال : ولا وجه له لأنه خطاب للجماعة ، وذكره الزمخشري " لا نلطط ولا نحد " بالنون ، قال : والوجه بالياء التحتية مبنيا لما لم يسم فاعله ، واللط المنع ، وفي حديث " أنشأت تلطها " أي تمنعها حقها ، وفي كلام الأعشى الحرمازي في شأن امرأته " أخلفت الوعد ولطت بالذنب " أراد منعته بضعها من لطت الناقة بذنبها ، إذا سدت فرجها به إذا أرادها الفحل . قال في كنز الأسرار : الملاحدة والزنادقة هم الذين يسبون الله - عز وجل - ، أو واحدا من أنبيائه ، وكذلك من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو عابه ، أو ألحق به نقصا في نفسه ، أو نسبه [ ص: 397 ] أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو شبهه بشيء على طريق التشويه ، أو الازدراء عليه أو التصغير لشأنه . قال في الفروع : ويقتل من سب الله ، أو رسوله ، نقل حنبل عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - : أو تنقصه ولو تعريضا . قال : وهو مذهب أهل المدينة . وسأله ابن منصور : ما الشتيمة التي يقتل بها ؟ قال : نحن نرى في التعريض الحد . وفي فصول ابن عقيل عن الأصحاب : لا تقبل توبته إن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه حق آدمي لم يعلم إسقاطه ، وأما إن سب الله فتقبل توبته ; لأنه يقبل التوبة في خالص حقه . ( ( و ) ) كـ ( ( ساحر وساحرة ) ) ممن يكفر بسحره ، من ذكر أو أنثى ؛ لما روى جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حد الساحر ضربة بالسيف " رواه الترمذي ، والدارقطني . وعن بجالة بن عبدة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس ، فأتانا كتاب عمر قبل موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس ، وانهوهم عن الزمزمة - فقتلنا ثلاث سواحر وجعلنا نفرق بين الرجل وحريمه .

رواه الإمام أحمد وأبو داود ، وللبخاري منه التفريق بين ذي المحارم . وروى الإمام مالك في الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنها - قتلت جارية لها سحرتها ، وكانت قد دبرتها ، فأمرت بها فقتلت . وكل من قلنا إن إسلامه لا يقبل بل حكمه أن يقتل ، يعني بحسب الظاهر في الدنيا ( ( وهم ) ) - يعني الزنادقة والدروز والمنافقة ونحوهم - يبعثون ( ( على نياتهم في ) ) الدار ( ( الآخرة ) ) فمن صدق منهم في توبته قبلت باطنا ، ونفعه ذلك بلا خلاف كما ذكره الإمام ابن عقيل وموفق الدين بن قدامة وغيرهما ، وقيل : يقبل الإسلام والتوبة من كل من ذكر حتى في الدنيا . قال الإمام ابن عقيل : التوبة من سائر الذنوب مقبولة خلافا لإحدى الروايتين عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - : لا تقبل توبة الزنديق . قال ابن عقيل : إذا أظهر لنا الزنديق التوبة والرجوع عن زندقته ؛ يجب أن نحكم بإيمانه ظاهرا ، وإن جاز أن يكون عند الله - عز وجل - كافرا ، قال : ولأن الزندقة نوع كفر ، فجاز أن تحبط بالتوبة كسائر [ ص: 398 ] الكفر من التوثن ، والتمجس ، والتهود ، والتنصر ، إذ ليس علينا معرفة الباطن جملة ، وإنما المأخوذ علينا حكم الظاهر ، فإذا بان لنا في الظاهر حسن طريقته وتوبته وجب قبولها ، ولم يجز ردها لما بينا وأن جميع الأحكام تتعلق بها .

قال : ولم أجد لهم - يعني القائلين بعدم القبول - شبهة أوردها إلا أنهم حكوا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قتل زنديقا ، ولا أمنع من ذلك ، وإن الإمام إذا رأى قتله لأنه ساع في الأرض بالفساد ، ساغ له ذلك ، وأما أن تكون توبته لا تقبل بدلالة أن قطاع الطريق لا يسقط الحد عنهم بعد القدرة ، ويحكم بصحتها عند الله - عز وجل - في غير إسقاط الحد عنهم ، فليس من حيث لم يسقط القتل لا تصح التوبة ، ولعل الإمام أحمد - رضي الله عنه - عنى بقوله " لا تقبل " في إسقاط القتل فيكون ما قبله هو مذهبه رواية واحدة ، قال : وكمن قال لا تقبل توبة المبتدع ، فإنا لا نمنع أن يكون مطالبا بمظالم الآدميين ، ولكن لا يمنع هذا صحة التوبة ، كالتوبة من السرقة وقتل النفس ، وغصب الأموال صحيحة مقبولة . والأموال والحقوق للآدمي لا تسقط ، ويكون الوعيد راجعا إلى ذلك ، ويكون نفي القبول عائدا إلى القبول الكامل .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رضي الله عنه - رادا قول من قال : الداعية إلى البدعة لا يغفر له ولا تقبل توبته ، قال : ويحتجون بحديث الإسرائيلي ، وفيه أنه قيل له : فكيف بمن أضللت ؟ وهذا تقوله طائفة ممن ينسب إلى السنة والحديث ، وليسوا من العلماء بذلك ، كأبي علي الأهوازي وأمثاله ممن لا يميزون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة ، وما يحتج به ، بل يروون كل ما في الباب محتجين به ، وقد حكى هذا طائفة قولا في مذهب الإمام أحمد ورواية عنه ، وظاهر مذهبه مع سائر مذاهب أئمة المسلمين أنه تقبل توبة الداعية إلى الكفر ، وتوبة من فتن الناس عن دينهم ، وقد تاب قادة الأحزاب ، مثل أبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم ، بعد أن قتل على الكفر بدعائهم وحضهم عليه من قتل ، وكانوا أحسن الناس إسلاما ، وغفر الله لهم كما قال - تعالى - : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وكذلك عمرو بن العاص كان من أعظم الدعاة إلى الكفر والإيذاء للمسلمين ، وقد قال له النبي - صلى الله عليه [ ص: 399 ] وسلم - لما أسلم : " يا عمرو أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله " فالداعي إلى الكفر والبدعة ، وإن كان أضل غيره ، فذلك الغير يعاقب على ذنبه ; لكونه قبل من هذا وتبعه ، وهذا عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة مع بقاء أوزار أولئك عليهم ، فإذا تاب هذا من ذنبه غفر له ذنبه ، فلم يبق عليه وزره ولا وزر من تبعه ، ولا ما حمله هو لأجل إضلالهم ، وأما هو فسواء تاب من أضلهم أو لم يتب ؛ حالهم واحد ، ولكن توبة مثل هذا تحتاج إلى ضد ما كان هو عليه من الضلال إلى الهدى ، كما تاب كثير من الكفار وأهل البدع ، وصاروا دعاة إلى الإسلام والسنة ، وسحرة فرعون كانوا أئمة في الكفر وتعليم السحر ، وتعلموا ثم أسلموا وختم لهم بخير ، وكذا قاتل النفس ، والجمهور على أن توبته مقبولة ، وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : لا تقبل ، وعن الإمام أحمد في ذلك روايتان ، وحديث قاتل المائة في الصحيحين ويرد ذلك ، فهو دليل على قبول توبته ، وآية إن الله يغفر الذنوب جميعا تدل على ذلك ، وآية النساء إنما فيها وعيد قاتل النفس إذا لم يتب ؛ كسائر وعيد القرآن ، وقال : وكل وعيد في القرآن فهو مشروط بعدم التوبة باتفاق الناس ، فبأي وجه يكون وعيد القاتل لاحقا به وإن تاب ؟ ! هذا في غاية الضعف ، ولكن قد يقال : لا تقبل توبته بمعنى لا تسقط حق المظلوم بالقتل ، وإنما التوبة تسقط حق الله ، والمقتول له مطالبته بحقه ، فهذا صحيح في جميع حقوق الآدميين حتى الدين ، وفي الصحيحين " الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين " . وحق الآدمي يعطاه من حسنات من ظلمه ، فمن تمام التوبة أن يستكثر العبد من الحسنات ليوفي غرماءه ، وتبقى له بقية يدخل بها الجنة . قال : ولعل ابن عباس - رضي الله عنهما - رأى أن القتل أعظم الذنوب بعد الكفر ، فلا يكون لصاحبه حسنات تقابل حق المقتول ، فلا بد أن يبقى له سيئات يعذب بها ، وهذا الذي رآه يقع في بعض الناس ، فيبقى الكلام فيمن تاب وأصلح ، وعجز عن حسنات تعادل حق المظلوم هل يجعل عليه من سيئات المظلوم ما يعذب به ؟ هذا موضوع دقيق ، على مثله يحمل حديث ابن عباس ، لكن هذا كله لا ينافي موجب قوله - تعالى - : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآيات [ ص: 400 ] فهي تدل على أن الله - تعالى - يغفر كل ذنب من الشرك وغيره من حيث الجملة ، فهي عامة في الأفعال مطلقة في الأشخاص ، مختصة بالتائبين بدليل قوله - تعالى - : وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون فأخبر أنه - تعالى - يغفر جميع الذنوب ، ولم يخبر أنه يغفر لكل مذنب ، بل قد أخبر في غير موضع أنه لا يغفر لمن مات كافرا ، فمن تاب من الكفر قبلت توبته حيث كانت التوبة قبل مجيء العذاب وقبل الغرغرة وبالله التوفيق .

والحاصل أن شيخ الإسلام ومن نحا منحاه لم يمنع توبة تائب من زنديق ومنافق وساحر ، وداعية بدعة ضلالة ، وقاتل نفس ، ولا من تكررت ردته ، فإنه قال في قوله - تعالى - : ثم ازدادوا كفرا : أي ثبتوا عليه حتى ماتوا ، وذلك لأن التائب راجع عن الكفر وغيره ، ومن لم يتب فإنه مستمر يزداد كفرا بعد كفر ، فقوله : ثم ازدادوا كفرا بمنزلة قول القائل : ثم أصروا على الكفر واستمروا عليه ، فهم كفروا بعد إسلامهم ، ثم ازدادوا كفرا أي ازداد كفرهم ، فهؤلاء لا تقبل توبتهم ، يعني عند الموت ، وأما من تاب قبل حضور الموت فقد تاب من قريب ، ورجع عن كفره ، فلم يزدد كفرا بل نقص بخلاف المصر على الكفر والمعاصي إلى حين المعاينة ، فإنه في ازدياد من ذلك ، وما بقي له زمان مخفف لبعض كفره فضلا عن هدمه ، والله أعلم . وقد سئل سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - عما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله - عز وجل - احتجز التوبة عن صاحب بدعة ، وحجز التوبة أي شيء معناه ؟ فقال : لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة لتوبة . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه الآية : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء فقال - صلى الله عليه وسلم - : هم أهل البدع والأهواء ليست لهم توبة . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - روح الله روحه - : لأن اعتقاد المبتدع الفاسد يدعوه إلى ألا ينظر نظرا تاما إلى دليل خلافه ، فلا يعرف الحق ; ولهذا قال السلف : إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، وقال أيوب السختياني وغيره : إن المبتدع لا يرجع . وقال شيخ الإسلام أيضا : التوبة من الاعتقاد الذي كثر ملازمة صاحبه له ومعرفته بحججه - تحتاج إلى ما يقابل ذلك من المعرفة والعلم والأدلة ، ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 401 ] " اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شبابهم " . قال الإمام أحمد وغيره : لأن الشيخ قد عسا في الكفر فإسلامه بعيد ، بخلاف الشاب ، فإن قلبه لين ، فهو قريب إلى الإسلام ، والله أعلم .

والحاصل أن الشيخ وغيره من المحققين بل وجمهور الأمة وأكثر الأئمة جزموا بقبول توبة كل زنديق ومنافق وملحد ومارق ظاهرا ، ووكلوا سريرته إلى الله - تعالى - ، والمشهور فقها عدم توبتهم كما مر ، وقد توسطت في المسألة فيما أشير إليه بقوله : ( ( قلت وإن دلت ) ) من الشخص التائب ، والمسلم الآيب ( ( دلائل الهدى ) ) وقرائن الأحوال ( ( كما جرى لـ ) ) الرجل الصالح الفاضل حسن ( ( العيلبوني ) ) نسبة إلى بلدة عيلبون ، وهي بليدة ما بين قرية حطين ودير حنا ، كانت لطائفة من الدروز ومسكنا لهم من أعمال صفد ، وكان هو درزيا من جملتهم ، فتاب ورجع عن كفره وإلحاده وزندقته وعناده ، وحسن حاله وصلحت أعماله ، وأقبل بقلبه وقالبه على دين الإسلام ، ورفض ما كان عليه من الكفر ، والضلال ، والأوهام ، فمن ظهرت منه قرائن الأحوال واتباع الهدى ، ورفض الضلال والإضلال والردى ( ( فإنه ) ) أي العيلبوني ( ( أذاع ) ) أي نشر وأظهر ( ( من أسرارهم ) ) أي من أسرار طائفة الدروز وما هم عليه من الكفر الذي لا مزيد عليه ، وانتحالهم ما لا يجوز عند أحد من سائر أهل الملل من الوقوع على المحارم من البنات ، والأخوات ، وأكلهم الخنزير ورفضهم العبادات ، وإنكارهم الشرائع ، وارتكابهم الضلالات ( ( ما ) ) أي شيئا كثيرا ( ( كان فيه ) ) أي ذلك المذاع ( ( الهتك ) ) أي الكشف ، والظهور ، والإبانة ( ( عن أستارهم ) ) التي كانوا يكتمونها ويستترون بإظهارهم الإسلام تقية ، مع عكوفهم على الكفر الصراح ، واعتقادهم أن كل ما حرمته الشريعة فهو مباح ، ولهم من الاصطلاحات التي يريدون لها معان فيما بينهم غير ظواهرها ما هو معروف عند كل من اطلع على عقائدهم ، وأظهره العيلبوني من مقاصدهم ، فيجعلون الصلاة معرفة أسرارهم ، ويريدون بالصوم كتمان أسرارهم ، وبالحج قصدهم عقالهم ، ومن نحو هذا الهذيان ما يخالفون به جميع الأديان ، فمن ظهرت قرائن إسلامه ودلائل صدقه والتزامه ، فإنه يقبل منه [ ص: 402 ] الإسلام عند الخاص والعام ( ( وكان ) ) العيلبوني ومن نحا منحاه ( ( للدين القويم ) ) ، والهدى المستقيم ( ( ناصرا ) ) باتباعه ، والعكوف عليه وذم من خالفه ، وكشف فضائحهم ، وإظهار قبائحهم ( ( فصار منا ) ) - معشر المسلمين أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية من أهل الإيمان والطاعة - ( ( باطنا ) ) أي في الباطن ( ( وظاهرا ) ) فهو مسلم مقبول الإسلام في الظاهر والباطن .

وكان حسن العيلبوني شاعرا لبيبا فائقا ، وكان حسن المطارحة طيب العشرة ، ارتحل إلى مصر وأخذ بها عن الشمس البابلي ، والشيخ سلطان ، والنور الشبراملسي وغيرهم ، ودخل دمشق الشام وجاور بها في الخانقاه السميساطية ، وله شعر كثير ، منه القصيدة النونية التي هجا بها الدروز ، وهي طويلة تبلغ ثلاثمائة بيت ، يذكر فيها مذاهبهم الفاسدة وضلالاتهم الباردة ، وله غير ذلك . قال أمين حلبي في تاريخه خلاصة الأثر في أعيان المائة الحادية عشرة ، قال : وأجود ما ظفرت له من شعره قوله :

حكى دخان علا ما فوق وجنته من مص غليونه إذ هزه الطرب     غيما على بدر تم قد تقطع من
أيدي النسيم فولى وهو ينسحب     فقلت والنار في قلبي لها لهب
لقد حكيت ولكن فاتك الشنب

قال المحبي في التاريخ المذكور : ثم ارتحل العيلبوني من دمشق إلى عكا ، فأقام بها مدة ، وبها توفي سنة خمس وثمانين وألف ، رحمه الله وعفا عنه .

فالذي نختاره وندين الله به ما أشرنا إليه بقولنا : ( ( فكل زنديق ) ) لا يتدين بدين ( ( وكل مارق ) ) من أهل البدع ، والضلالات ، وانتحال الأهواء وارتكاب المحالات ( ( و ) ) كل ( ( جاحد ) ) من درزي ودهري وفيلسوفي وبرهمي ومعطل ، وعابد وثن وشمس ونار وغيرها ( ( و ) ) كل ( ( ملحد ) ) في آيات الله ومنكر لشرائع الله وكافر برسول الله ، وهو مع ذلك ( ( منافق ) ) أي ذي نفاق ، يبطن الكفر الذي منطو عليه ، ويظهر الإسلام الذي لا ركون له إليه ( ( إذا ) ) تاب مما هو عليه من الكفر ، والإلحاد والضلال والعناد ، و ( ( استبان ) ) أي امتحن حاله وطلب بيانه ، فظهر صحة إيمانه و ( ( نصحه للدين ) ) القويم وصدق إيقانه ( ( فإنه ) ) أي هذا التائب الناصح ، والراجع الصالح ( ( يقبل ) ) منه ذلك الرجوع والتوبة عن تلك الترهات ، وهو مقبول [ ص: 403 ] لدى من يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ( ( عن يقين ) ) وهو حكم الذهن الجازم المطابق للواقع ، وإنما كان كذلك لقوله - تعالى - : إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية