الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ( فصل في الكلام عن الجنة والنار ) )

ولما انتهى الكلام على الشفاعة وأقسامها وتفصيلها وأحكامها بحسب ما يليق بالمقام ، أعقب ذلك بذكر العظيمتين دار القرار للأخيار ، ودار البوار للكفار ، وهما الجنة والنار فقال :


( ( وكل إنسان وكل جنة في دار نار أو نعيم جنة ) )      ( ( هما مصير الخلق في كل الورى
فالنار دار من تعدى وافترى ) )      ( ( ومن عصى بذنبه لم يخلد
وإن دخلها يا بوار المعتدي ) )



( ( وكل إنسان ) ) من بني آدم ، فالإنس والإنسان من البشر ، والواحد إنسي وأنسي ، والجمع أناسي والمرأة إنسان ، وبالهاء عامية كما في القاموس قال : وسمع في شعر كأنه مولد :

لقد كستني في الهوى     ملابس الصب الغزل
إنسانة فتانة     بدر الدجى منها خجل
إذا زنت عيني بها     فبالدموع تغتسل



( ( وكل جنة ) ) بكسر الجيم وتشديد النون مفتوحة طائفة الجن ، والجان اسم للجن ، أي : كل واحد من الثقلين الذين هما الإنس والجن لابد أن [ ص: 219 ] يكون ( ( في ) ) إحدى الدارين إما في ( ( دار نار ) ) وهي دار البوار ومقر الكفار ، وهي جسم لطيف محرق يطلب العلو تذكر وتؤنث ، وألفها منقلبة عن واو بدليل تصغيره على نويرة ، وتجمع جمع قلة على نيرة وأنوار ، وجمع كثرة على نيران ونور ، والنور ضوءها وضوء كل نير ، وهو ضد الظلمة ، والنار سبع طبقات أعلاها جهنم ، فلظى ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية ، وباب كل واحدة منها من داخل الأخرى على الاستواء كما قاله ابن عطية وغيره ( ( أو ) ) في دار ( ( نعيم ) ) مقيم في ( ( جنة ) ) المولى الكريم الرءوف الرحيم ، فكل واحدة من الجنة والنار حق ثابت في الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وكل ما هو كذلك فالإيمان به واجب ، واعتقاد وجوده حق لازب ، والمراد من الجنة دار الثواب ، ومن النار دار العقاب ( ( هما ) ) أي : الجنة والنار ( ( مصير الخلق ) ) من الإنس والجن ، أي لابد لكل واحد ( ( من كل الورى ) ) كفتي الخلق من الإنس والجن ، بل ومن الملائكة ، فإنهم يكونون في الجنة كما يأتي ، أن يصير إما إلى الجنة وإما إلى النار وإما أهل الأعراف ، فإن مصيرهم إلى الجنة كما يأتي ( ( فالنار التي هي دار الهوان والبوار ، فهي ( ( دار من ) ) أي كل شخص من إنس وجن ( ( تعدى ) ) طوره ، وخالف مولاه فكفر به ، أو بأحد من رسله ، أو بكتاب من كتبه ، أو شرع من شرعه على لسان نبي بعثه ، ولم ينسخه ( ( وافترى ) ) فيما عبد ، واجترأ بما قصد ، فلم يقف عند الحدود ، ولم يف بالعهد الموعود ، فكل من حكم الشرع بكفره من كافر أصلي من أهل الشرك وعبدة الأوثان والكواكب والنيران ، وأهل الشرائع المنسوخة بعد النسخ والتبديل من أهل التوراة والإنجيل فهم خالدون مخلدون في النار ، ودار الخزي والبوار ( ( من ) ) أي وكل عبد مؤمن بالله ورسوله ، ولو مبتدعا لم يحكم الشرع بكفره ( ( عصى ) ) بمخالفة ربه ، وتعدى حدوده ( ( بذنبه ) ) ، ولو كان ذنبه من أكبر الكبائر كالقتل والزنا وأكل الربا ، ومات على الإيمان ولو لم يتب ( ( لم يخلد ) ) في النار ( ( وإن دخلها ) ) ليتطهر من الأوزار ، فإنه يخرج منها إما بشفاعة الشافعين ، أو رحمة أرحم الراحمين كما تقدم ( ( يا بوار ) ) أي يا هلاك ( ( المعتدي ) ) إشارة إلى تقبيح ما ذهبت إليه المعتزلة من زعمهم أن من دخل النار ، فهو خالد فيها لأنه إما كافر ، أو صاحب كبيرة [ ص: 220 ] مات بلا توبة إذ المعصوم والتائب وصاحب الصغيرة إذا اجتنب الكبائر ليسوا من أهل النار على ما سبق من أصولهم ، والكافر مخلد بالإجماع بخلاف العاصي ، وتقدم الكلام على ذلك بما فيه كفاية ، وإن مرتكب الكبيرة إذا مات ولم يتب في مشيئة الله إن شاء عفا عنه ولم يعذبه ، وإن شاء عذبه ثم يخرجه ، وأما خلود المؤمن المصر ، فهو مذهب الخوارج والمعتزلة ، وأهل الحق على خلافه ، وهو الحق الذي لا مرية فيه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية