الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( تنبيه ( قد استشكل جمع قوله : " اعملوا ما شئتم " ، فإن ظاهره أنه للإباحة ، وهو خلاف عقد الشرع ، وأجيب بأنه إخبار عن الماضي ، أي كل عمل كان لكم فهو مغفور ، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ، ولقال : فسأغفره لكم ، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - خاطب بذلك عمر - رضي الله عنه - منكرا عليه ما قاله في أمر حاطب ، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين فدل على أن المراد ما سيأتي ، وأورده بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ، فإن أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - قال لحاطب : قاتلك الله ، ترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بالأنقاب وتكتب إلى قريش تحذرهم ؟ دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك يا عمر ، إن الله - عز وجل - اطلع على أصحاب بدر يوم بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ؟ " فاغرورقت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم حين سمعه يقول في أهل بدر ما قال ، وأنزل الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) [ ص: 365 ] - إلى قوله - ( والله بما تعملون بصير ) . وقيل : إن صيغة الأمر في قوله اعملوا للتشريف والتكريم ، فالمراد عدم المؤاخذة بما يصدر عنهم ، وأنهم خصوا بذلك ، لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السالفة ، وتأهلوا لأن يغفر لهم الذنوب اللاحقة ، أي كل ما عملتموه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور ، وقيل : إن المراد أن ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة ، وقيل : هي شهادة بعدم وقوع الذنوب منهم ، وفيه نظر ظاهر لما ثبت في قصة قدامة بن مظعون حين شرب الخمر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - متأولا ، فحده عمر ثم هاجره بسبب ذلك ، فرأى عمر في المنام من يأمره بمصالحته ، وكان قدامة بدريا . والذي يفهم من سياق القصة الاحتمال الثاني ، واتفق العلماء على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة ، لا فيما يتعلق بأحكام الدنيا من إقامة الحدود ونحوها ، والله أعلم .

على أنه زعم أناس أن قوله تعالى : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله ) الآية وفيها ( فأعقبهم نفاقا ) الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب ، أو ابن أبي حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن عوف الأنصاري الأوسي ، وقد ذكروه من البدريين ، وقد عده الحافظ ابن الجوزي في منتخب المنتخب من أهل بدر ، ثم عده في الكتاب المذكور من جملة المنافقين ، ثم قال : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كان المنافقون من الرجال ثلاثمائة ، ومن النساء مائة وسبعين . وقد كان فيهم من شهد بدرا فتغيرت حاله كثعلبة ، ومعتب بن قشير نعوذ بالله من الخذلان . انتهى . وقال ابن الكلبي : إن ثعلبة البدري قتل بأحد ، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة ثعلبة بن حاطب ، أو ابن أبي حاطب الأنصاري - ذكره ابن إسحاق فيمن بنى مسجد الضرار - قال الحافظ ابن حجر : وفي كون صاحب القصة - إن صح الخبر ، ولا أظنه يصح - هو البدري المذكور قبله نظر ، وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي إن البدري استشهد بأحد ، ويقوي ذلك أيضا أن ابن مردويه روى في تفسيره من طريق عطية عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية المذكورة يعني ( ومنهم من عاهد الله ) قال : نزل ذلك في رجل يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار أتى مجلسا [ ص: 366 ] فأشهدهم فقال : ( لئن آتانا من فضله ) - الآية فذكر القصة مطولة ، فقال : إنه ثعلبة بن أبي حاطب ، والبدري اتفقوا على أنه ثعلبة بن حاطب ، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية . وحكى عن ربه - تبارك وتعالى - أنه قال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله تعالى نفاقا في قلبه وينزل فيه ما نزل ؟ فالظاهر أنه غيره ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية