الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 133 ] الوجه الخامس من النقل ما جاء منه في ذم الرأي المذموم :

                        وهو المبني على غير أس ، والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة ، لكنه وجه تشريعي ، فصار نوعا من الابتداع ، بل هو الجنس فيها; فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل ، ولذلك وصف بوصف الضلال .

                        ففي الصحيح ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ; قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناس جهال ، يستفتون ، فيفتون برأيهم ، فيضلون ويضلون .

                        فإذا كان كذلك ، فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة .

                        وخرج ابن المبارك وغيره ، عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم ، يحرمون به ما أحل الله ، ويحلون به ما حرم .

                        قال ابن عبد البر : " هذا هو القياس على غير أصل ، والكلام في الدين بالتخرص والظن ، ألا ترى إلى قوله في الحديث : " يحلون الحرام ويحرمون الحلال " ؟ ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله ، والحرام ما كان في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه ، فمن جهل [ ص: 134 ] ذلك وقال فيما سئل عنه بغير علم ، وقاس برأيه ما خرج ( منه ) عن السنة ، فهذا الذي قاس برأيه فضل وأضل ، ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها; فلم يقل برأيه " .

                        وخرج ابن المبارك حديثا : " إن من أشراط الساعة ثلاثا ، وإحداهن : " أن يلتمس العلم عند الأصاغر " .

                        قيل لابن المبارك : من الأصاغر ؟ قال : " الذين يقولون برأيهم ، فأما صغير يروي عن كبير; فليس بصغير " .

                        وخرج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه قال : " أصبح أهل الرأي أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يعوها ، وتفلتت منهم " .

                        قال سحنون : " يعني : البدع " .

                        [ ص: 135 ] وفي رواية : " إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي ، فضلوا وأضلوا " .

                        وفي رواية لـ ابن وهب : " إن أصحاب الرأي أعداء السنة ، أعيتهم أن يحفظوها ، وتفلتت منهم أن يعوها ، واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا : لا نعلم ، فعارضوا السنن برأيهم ، فإياكم وإياكم " .

                        قال أبو بكر بن أبي داود : " أهل الرأي هم أهل البدع " .

                        وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : " من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ، ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز وجل " .

                        وعن ابن مسعود رضي الله عنه : " قراؤكم يذهبون ، ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم " .

                        وخرج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب : أنه قال : " السنة ما سنه الله ورسوله ، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة " .

                        وخرج أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه ، قال : " لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم ، فأخذوا فيهم بالرأي ، فأضلوا بني إسرائيل " .

                        وعن الشعبي : " إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس " .

                        وعن الحسن : " إنما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل ، وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار ، وقالوا في الدين برأيهم ، فضلوا [ ص: 136 ] وأضلوا .

                        وعن دراج بن السمح قال : " يأتي على الناس زمان; يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما ، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضا ، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن " .

                        وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار :

                        فقد قالت طائفة : المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن ، لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام ، لأنهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل وفي رد ظواهر القرآن; لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل ، كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالمحتملات ، ونفي عذاب القبر ، ونفي الميزان والصراط . وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والحوض إلى أشياء يطول ذكرها وهي مذكورة في كتب الكلام .

                        وقالت طائفة : إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع ، وما كان مثله من ضروب البدع ، فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي ، وخروج عن الشرع .

                        وهذا هو القول الأظهر ، إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعا دون نوع ، بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة ، حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة ، كانت من الأصول أو الفروع ، كما قاله القاضي إسماعيل في قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) ; بعدما حكى أنها نزلت في الخوارج .

                        [ ص: 137 ] وكأن القائل بالتخصيص والله أعلم لم يقل به بالقصد الأول ، بل أتى بمثال مما تتضمنه الآية ، كالمثال المذكور; فإنه موافق لما كان مشتهرا في ذلك الزمان ، فهو أول ما يمثل به ، ويبقى ما عداه مسكوتا عن ذكره عند القائل به ، ولو سئل عن العموم لقال به .

                        وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع إنما تحصل على التفسير بحسب الحاجة ، ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما أنزلت في قصة نصارى نجران ، ثم نزلت على الخوارج حسبما تقدم إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير ، إنما يحملونه على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغة .

                        وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين ، وهو الأولى لمناصبهم في العلم ، ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة .

                        ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع .

                        وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ، ورد الفروع والنوازل بعضها إلى بعض قياسا دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها ، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل ، وفرعت قبل أن تقع ، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن .

                        قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه : تعطيل السنن ، والبعث على جهلها ، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ، ومن كتاب الله تعالى ومعانيه .

                        [ ص: 138 ] واحتجوا على ذلك بأشياء ، منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن ، وما جاء من النهي عن الأغلوطات ، وهي صعاب المسائل ، وعن كثرة السؤال ، وأنه كره المسائل وعابها ، وإن كثيرا من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل .

                        وهذا القول غير مخالف لما قبله ، لأن من قال به; قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم ، لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم ، وهو ترك النظر في السنن اقتصارا على الرأي .

                        وإذا كان كذلك; اجتمع مع ما قبله ، فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيه; منع ما حواليه ، وما دار به ورتع حول حماه ، ألا ترى إلى قوله عليه السلام : الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور مشتبهة ، وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع ، وهو منع الجائز; لأنه يجر إلى غير الجائز ، وبحسب عظم المفسدة في الممنوع يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته .

                        وما تقدم من الأدلة يبين لك عظم المفسدة في الابتداع ، فالحوم حول حماه يتسع جدا ، ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة ، فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة ، وحكوا في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال :

                        لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق [ ص: 139 ] هاهنا وهاهنا .

                        وصح نهيه عليه السلام عن كثرة السؤال .

                        وقال : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها .

                        وأحال بها جماعة على الأمراء ، فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ، ويسمونها : صوافي الأمراء .

                        وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة ، وأنه رأي ليس بعلم : كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : " أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان " ، ثم أجاب .

                        وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب ، فسأله عن شيء فأملاه عليه ، ثم سأله عن رأيه ، فأجابه ، فكتب الرجل ، فقال رجل من جلساء سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل : " ناولنيها " ، فناوله [ ص: 140 ] الصحيفة ، فخرقها .

                        وسئل القاسم بن محمد عن شيء ؟ فأجاب ، فلما ولى الرجل; دعاه ، فقال له : " لا تقل : إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ، ولكن إن اضطررت إليه عملت به " .

                        وقال مالك بن أنس : " قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تم هذا الأمر واستكمل ، فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نتبع الرأي ، فإنه متى اتبع الرأي; جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته ، فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ، أرى هذا لا يتم " .

                        ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ، ولكن كثيرا ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : ( إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين ) .

                        ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه ، لم يزل يذمه ويذم من تعمق فيه ، فقد كان ينحى على أهل العراق ، لكثرة تصرفهم به في الأحكام ، فحكي عنه في ذلك أشياء ، من أخفها قوله :

                        " الاستحسان تسعة أعشار العلم ، ولا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة " .

                        والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد ، فهذه كلها تشديدات في الرأي ، وإن كان جاريا على الأصول ، حذرا من الوقوع في الرأي غير الجاري على أصل .

                        ولابن عبد البر هنا كلام كثير كرهنا الإتيان به .

                        [ ص: 141 ] والحاصل من جميع ما تقدم : أن الرأي المذموم ما بني على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه ، وما كان منه ذريعة إليه ، وإن كان في أصله محمودا ، وذلك راجع إلى أصل شرعي :

                        فالأول : داخل تحت حد البدعة ، وتتنزل عليه أدلة الذم .

                        والثاني : خارج عنه ، ولا يكون بدعة أبدا .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية