الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الرابعة عشرة

                        أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة ، وإنما تعرض لعدها خاصة ، وأشار إلى الفرق الناجية حين سئل عنها ، وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأمور :

                        أحدها : أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر ، إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة . وأيضا لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها ، لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور، وهي البدع . والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضدا ولا خلافا ، فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق . أسباب تعيين النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية فقط وهي ثلاثة أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان والثاني أن ذلك أوجز .

                        والثاني : أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج ، وحصل التعيين بالاجتهاد ، بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضي شرحا كثيرا ، ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد ، لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعا لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها . السبب الثاني أنه أحرى بالستر كما تقدم بيانه

                        والثالث : أن ذلك أحرى بالستر ، كما تقدم بيانه في مسألة الفرق ، ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر ، ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة ، فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال [ ص: 759 ] الستر ، والحمد لله ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله ما أنا عليه وأصحابي ، ووقع ذلك جوابا للسؤال الذي سألوه إذ قالوا : من هي يا رسول الله ؟ فأجاب بأن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلاة والسلام وأوصاف أصحابه . وكان ذلك معلوما عندهم غير خفي فاكتفوا به . وربما يحتاج إلى تفسير بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان .

                        وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بهديه ، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم وأثنى على متبوعهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن ، فقال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة ، وجاءت السنة مبينة له ، فالمتبع للسنة متبع للقرآن . والصحابة كانوا أولى الناس بذلك ، فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلة للجنة بفضل الله ، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : ما أنا عليه وأصحابي . الكتاب والسنة هما الصراط المستقيم وغيرهما تابع لهما

                        فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم ، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشئ عنهما ، هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله : وهي الجماعة لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف ، إلا أن في لفظ الجماعة معنى تراه بعد إن شاء الله .

                        ثم إن في هذا التعريف نظرا لابد من الكلام عليه فيه ، وذلك أن [ ص: 760 ] " كل " داخل تحت راية الإسلام من سني أو مبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة ، إذ لا يدعي ( خلاف ) ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام ، وانحاز إلى فئة الكفر ، كاليهود والنصارى ، وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين . وأما من لم يرض لنفسه إلا بوصف الإسلام وقاتل سائر الملل على هذه الملة ، فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها - وهو مدع أحسنها - وهو المعلم فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبق على تلك الحالة ولم يصاحب أهلها ، فضلا عن أن يتخذها دينا يدين به لله ، وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل . تنازع الفرق وتعبير كل منها عن نفسها

                        فإذا كان كذلك فكل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة . ألا ترى أن المبتدع آخذ أبدا في تحسين حالتيه شرعا وتقبيح حالة غيره ؟ فالظاهر يدعي أنه المتبع للسنة .

                        والغاش يدعي أنه الذي فهم الشريعة ، وصاحب نفي الصفات يدعي أنه الموحد .

                        والقائل باستقلال العبد [ يدعي ] أنه صاحب العدل ، وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد .

                        والمشبه يدعي أنه المثبت لذات الباري وصفاته ، لأن نفي التشبيه عنده نفي محض ، وهو العدم .

                        وكذلك كل طائفة من الطوائف التي ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها .

                        وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو السنية على الخصوص ، فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا .

                        [ ص: 761 ] فالخوارج تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وفي رواية :

                        لا يضرهم خلاف من خالفهم ، ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد .

                        والقاعد يحتج بقوله :

                        عليكم بالجماعة ، فإن يد الله مع الجماعة ، ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وقوله : كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله [ ص: 762 ] القاتل .

                        والمرجئ يحتج بقوله : من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق .

                        والمخالف له محتج بقوله : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .

                        والقدري يحتج بقوله تعالى : فطرة الله التي فطر الناس عليها وبحديث : كل مولود يولد على الفطرة الحديث .

                        والمفوض يحتج بقوله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها وبحديث : اعملوا فكل ميسر لما خلق له .

                        [ ص: 763 ] والرافضة تحتج بقوله عليه الصلاة والسلام : ليردن الحوض أقوام ثم ليتخلفن دوني ، فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، ثم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ويحتجون في تقديم علي - رضي الله عنه - ب : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنه لا نبي بعدي و : من كنت مولاه فعلي مولاه ومخالفوهم يحتجون في تقديم أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - بقوله : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر إلى أشباه ذلك ، مما يرجع إلى معناه .

                        والجميع محومون - في زعمهم - على الانتظام في سلك الفرقة الناجية ، وإذا كان كذلك أشكل على المبتدع في النظر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر ، فإنها متدافعة متناقضة . وإنما يمكن الجمع فيها إذا جعل بعضها أصلا . فيرد البعض الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل .

                        وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك [ ص: 764 ] الأدلة وترد ما سواها إليها ، أو تهمل اعتبارها بالترجيح ، إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح ، أو تدعي أن أصلها الذي ترجع إليه قطعي والمعارض له ظني فلا يتعارضان .

                        وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة ، أما وقد استقرت مآخذ الخلاف فمحال ، وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم .

                        فتأملوا - رحمكم الله - كيف صار الاتفاق محالا في العادة ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به .

                        والحاصل ، أن تعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب ، ومع ذلك فلابد من النظر فيه ، وهو نكتة هذا الكتاب ، فليقع به فضل اعتناء ما هيأه الله ، وبالله التوفيق .

                        ولما كان ذلك يقتضي كلاما كثيرا أرجأنا القول فيه إلى باب آخر ، وذكره فيه على حدته، إذ ليس هذا موضع ذكره ، والله المستعان

                        .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية