الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع ، وأنهم المرادون بالأحاديث ، فلنأخذ ذلك أصلا ويبنى عليه معنى آخر ، وهي : المسألة السابعة عشرة

                        وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد، سواء ضموا إليهم العوام أم لا ، فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم ، فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية ، وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة ، فلابد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء ، فإنهم لو تمالئوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هم الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر ، لقلة العلماء وكثرة الجهال ، فلا يقول أحد : إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب ، وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث . بل الأمر بالعكس ، وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا ، والعوام هم المفارقون للجماعة إن خالفوا ، فإن وافقوا فهو الواجب عليهم .

                        ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال : أبو بكر وعمر - قال - فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ، قيل : فهؤلاء ماتوا ! فمن الأحياء ؟ قال : أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزي ، فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق ، [ ص: 777 ] وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يكن اتباع العوام لأمثالهم ، ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية ، بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين ، فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد .

                        وأيضا ، فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ، ورمي في عماية ، وهو مقتضى الحديث الصحيح :

                        إن الله لا يقبض العلم انتزاعا الحديث

                        روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال : سمعت إسحاق بن راهويه وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة ، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ، فقال رجل يا أبا يعقوب ! من السواد الأعظم ؟ فقال محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ، ثم قال : سأل رجل ابن المبارك : من السواد الأعظم ؟ قال : أبو حمزة السكري ، ثم قال إسحاق : في ذلك الزمان ( يعني أبا حمزة ) وفي زماننا محمد بن أسلم ، ومن تبعه ، ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة الناس . ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم وطريقه ، فمن [ ص: 778 ] كان معه وتبعه فهو الجماعة ، ثم قال إسحاق : لم أسمع عالما منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا بأثر النبي صلى الله عليه وسلم من محمد بن أسلم .

                        فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس، وإن لم يكن فيهم عالم ، وهو وهم العوام ، لا فهم العلماء . فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ، ولا توفيق إلا بالله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية