الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        إذا ثبت هذا ؛ فالدخول في عمل على نية الالتزام له ، إذا ثبت هذا ، فالدخول في عمل على نية الالتزام له إن كان في المعتاد ، بحيث إذا داوم عليه ؛ أورث مللا ، ينبغي أن يعتقد أن هذا [ ص: 387 ] الالتزام مكروه ابتداء ، إذ هو مؤد إلى أمور جميعها منهي عنه :

                        أحدها : أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير ، وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته ، وذلك يضاهي ردها على مهديها ، وهو غير لائق بالمملوك مع سيده ، فكيف يليق بالعبد مع ربه ؟ !

                        والثاني : خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع .

                        وقال صلى الله عليه وسلم إخبارا عن داود عليه السلام : إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى ؛ تنبيها على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء لعدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن تكبده بسبب ضعفه .

                        وقيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إنك لتقل الصوم ، فقال : " إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إلي منه " .

                        ولذلك كره مالك إحياء الليل كله ، وقال : " لعله يصبح مغلوبا ، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة " ، ثم قال : " لا بأس به ؛ ما لم يضر بصلاة الصبح " .

                        وقد جاء في : صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتين ، ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل ؛ لأنه قوة على الوقوف والدعاء ، ولابن وهب في ذلك حكاية .

                        وقد جاء في الحديث : إن لأهلك عليك حقا ، ولزوارك عليك حقا ، ولنفسك عليك حقا ، فإذا انقطع إلى عبادة لا تلزمه في الأصل ؛ فربما [ ص: 388 ] أخل بشيء من هذه الحقوق .

                        وعن أبي جحيفة ( رضي الله تعالى عنه ) ؛ قال : آخر ما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء ، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلة ، فقال : ما شأنك متبذلة ؟ قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا ، قال : فلما جاء أبو الدرداء ؛ قرب إليه طعاما ، فقال : كل ؛ فإني صائم ، قال : ما أنا بآكل حتى تأكل ، قال : فأكل ، فلما كان الليل ؛ ذهب أبو الدرداء ليقوم ، فقال له سلمان : نم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال له : نم ، فنام ، فلما كان عند الصبح ؛ قال له سلمان : قم الآن ، فقاما فصليا ، فقال ( سلمان ) : إن لنفسك عليك حقا ، ولربك عليك حقا ، ولضيفك عليك حقا ، ولأهلك عليك حقا ، فأعط لكل ذي حق حقه . فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له ، فقال : صدق سلمان .

                        قال الترمذي : صحيح .

                        وهذا الحديث قد جمع التنبيه على حق الأهل بالوطء والاستمتاع وما يرجع إليه ، والضيف بالخدمة والتأنيس والمؤاكلة وغيرها ، والولد بالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة ، والنفس بترك إدخال المشقات عليها ، وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم وبوظائف أخر فرائض ونوافل آكد مما هو فيه ، والواجب أن يعطي لكل ذي حق حقه .

                        وإذا التزم الإنسان أمرا من الأمور المندوبة أو أمرين أو ثلاثة ؛ فقد يصده ذلك عن القيام بغيرها ، أو عن كماله على وجهه ، فيكون ملوما .

                        [ ص: 389 ] ( والثالث ) : خوف كراهية النفس لذلك العمل الملتزم ؛ لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه ، فتدخل المشقة ، ( بحيث ) لا يقرب من وقت العمل ؛ إلا والنفس تشمئز منه ، وتود لو لم تعمل ، أو تتمنى لو لم تلتزم .

                        وإلى هذا المعنى يشير حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن هذا الدين متين ، فأوغلوا فيه برفق ، ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله ؛ فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى .

                        [ ص: 390 ] فشبه الموغل بالعنف بالمنبت ، وهو المنقطع في بعض الطريق ؛ [ لأنه عنف في أوله ] تعنيفا على الظهر ـ وهو المركوب ـ حتى وقف فلم يقدر على السير ، ولو رفق بدابته ؛ لوصل إلى رأس المسافة .

                        فكذلك الإنسان ؛ عمره مسافة ، والغاية الموت ، ودابته نفسه ، فكما هو المطلوب بالرفق على الدابة حتى يصل بها ؛ فكذلك هو مطلوب بالرفق بنفسه حتى يسهل عليها قطع مسافة العمر بحمل التكليف ، فنهى في الحديث عن التسبب في تبغيض العبادة للنفس ، وما نهى الشرع عنه لا يكون حسنا .

                        وخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال : لما نزلت : ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ومعاذا ، فقال : " انطلقا فبشرا ويسرا ولا تعسرا ؛ فإني أنزلت علي : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا .

                        وخرج مسلم عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ومعاذا إلى اليمن ، فقال : " بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا .

                        [ ص: 391 ] وعنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره ؛ قال : " بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا .

                        وهذا نهي عن التعسير الذي التزام الحرج في التعبد نوع منه .

                        وفي الطبري عن جابر بن عبد الله ؛ قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يصلي على صخرة بمكة ، فأتى ناحية مكة ، فمكث مليا ، ثم انصرف ، فوجد الرجل يصلي على حاله ، فقال : أيها الناس ! عليكم بالقصد والقسط ـ ثلاثاـ ؛ فإن الله لن يمل حتى تملوا .

                        وعن بريدة الأسلمي : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي ، فقال : " من [ ص: 392 ] هذا ؟ ، فقلت : هذا فلان ، فذكرت من عبادته وصلاته ، فقال : " إن خير دينكم أيسره .

                        وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الحالة ، وإنما ذلك مخافة الكراهية للعمل ، وكراهية العمل مظنة للترك الذي هو مكروه لمن ألزم نفسه لأجل نقض العهد ، ( وهو الوجه الرابع ) .

                        وقد مر في الوجه الثالث ما يدل عليه ؛ فإن قوله عليه السلام : فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى " ، ومع قوله : " ولا تبغضوا إلى أنفسكم العبادة ؛ يدل على أن بغض العمل وكراهيته مظنة الانقطاع ، ولذلك مثل عليه السلام بالمنبت ، وهو المنقطع عن استيفاء المسافة ، وهو الذي دل عليه قول الله تعالى : فما رعوها حق رعايتها ، على التفسير المذكور .

                        ( والخامس ) : الخوف من الدخول تحت الغلو في الدين ؛ فإن الغلو هو المبالغة في الأمر ، ومجاوزة الحد فيه إلى حيز الإسراف ، وقد دل عليه مما تقدم أشياء :

                        حيث قال عليه السلام : يا أيها الناس ! عليكم بالقصد . . . . [ ص: 393 ] الحديث .

                        وقال الله عز وجل : ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم .

                        وعن ابن عباس رضي الله عنهما ؛ قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة : " اجمع لي حصيات من حصى الخذف " ، فلما وضعتهن في يده ؛ قال : " بأمثال هؤلاء ؛ إياكم والغلو في الدين ؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين .

                        فأشار إلى أن الآية في النهي عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط ، وأكثر هذه الأحاديث المقيدة آنفا خرجها الطبري .

                        وخرج أيضا عن يحيى بن جعدة ؛ قال : " كان يقال : اعمل وأنت مشفق ، ودع العمل وأنت تحبه : عمل دائم وإن قل خير من عمل كثير منقطع " .

                        وأتى معاذا رجل ، فقال : أوصني . قال : " أمطيعي أنت ؟ " ، قال : نعم ، قال : " صل ونم ، وصم وأفطر ، واكتسب ولا تأت الله إلا وأنت مسلم ، وإياك ودعوة المظلوم .

                        [ ص: 394 ] وعن إسحاق بن سويد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد بن مطرف : " يا عبد الله ! العلم أفضل من العمل ، والحسنة بين السيئتين ، وخير الأمور أوسطها ، وشر السير الحقحقة .

                        ومعنى قوله : إن الحسنة بين السيئتين : أن الحسنة هي القصد والعدل ، والسيئتين مجاوزة الحد والتقصير ، وهو الذي دل على معناه قول الله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط الآية ، وقوله : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية .

                        ومعنى الحقحقة : أرفع السير ، وإتعاب الظهر ، وهو راجع إلى الغلو والإفراط .

                        ونحوه عن يزيد بن مرة الجعفي ؛ قال : " العلم خير من العمل ، والحسنة بين السيئتين " .

                        وعن كعب الأحبار : " إن هذا الدين متين ؛ فلا تبغض إليك دين الله ، وأوغل برفق ؛ فإن المنبت لم يقطع بعدا ولم يسبق ظهرا ، واعمل عمل المرء الذي يرى أنه لا يموت إلا يوما ، واحذر حذر المرء الذي يرى أنه [ ص: 395 ] يموت غدا .

                        وخرج ابن وهب نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص .

                        وهذه إشارة إلى الأخذ بالعمل الذي يقتضي المداومة عليه من غير حرج .

                        وعن عمر بن إسحاق ؛ قال : " أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم ، فما رأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم " .

                        وقال الحسن : " دين الله وضع فوق التقصير ودون الغلو " .

                        والأدلة في هذا المعنى كثيرة ، جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين .

                        والحرج كما ينطلق على الحرج الحالي ـ كالشروع في عبادة شاقة في نفسها ـ كذلك ينطلق على الحرج المآلي ، إذ كان الحرج لازما مع الدوام ؛ كقصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، وغير ذلك ـ مما تقدم ـ ، مع أن الدوام مطلوب حسبما اقتضاه قول أبي أمامة رضي الله عنه في قوله تعالى : فما رعوها حق رعايتها ، وقوله صلى الله عليه وسلم : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل ، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا أثبته ، حتى قضى ركعتي ما بين الظهر بعد العصر .

                        [ ص: 396 ] هذا ؛ إن كان العامل لا ينوي الدوام فيه ، فكيف إذا عقد في نيته أن لا يتركه ؟ ! فهو أحرى بطلب الدوام .

                        فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو : " يا عبد الله ! لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل ، فترك قيام الليل ، وهو حديث صحيح ، فنهاه عليه السلام أن يكون مثل فلان ، وهو ظاهر في كراهية الترك من ذلك الفلان وغيره .

                        فالحاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام مطلوب الترك لعلة أكثرية ، ففهم عند تقريره أنه إذا فقدت ؛ زال طلب الترك ، وإذا ارتفع طلب الترك ؛ رجع إلى أصل العمل ، وهو طلب الفعل .

                        فالداخل فيه على التزام شرطه داخل في مكروه ابتداء من وجه ؛ لإمكان عدم الوفاء بالشرط ، وفي المندوب إليه ؛ حملا على ظاهر العزيمة على الوفاء ، فمن حيث الندب ؛ أمره الشارع بالوفاء ، ومن حيث الكراهية ؛ كره له أن يدخل فيه .

                        وحين صارت الكراهة هي المقدمة ؛ كان دخوله في العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغير أمر ، فأشبه المبتدع الداخل في عبادة غير مأمور بها ، فقد يستسهل بهذا الاعتبار إطلاق البدعة عليها كما استسهله أبو أمامة رضي الله عنه .

                        ومن حيث كان العمل مأمورا به ابتداء قبل النظر في المآل ، أو مع قطع النظر عن المشقة ، أو مع اعتقاد الوفاء بالشرط ؛ أشبه صاحبه من دخل [ ص: 397 ] في نافلة قصدا للتعبد بها ، وذلك صحيح جار على مقتضى أدلة الندب .

                        ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء ، كان نذرا أو التزاما بالقلب غير نذر ، ولو كان بدعة داخلة في حد البدعة ؛ لم يؤمر بالوفاء ، ولكان عمله باطلا .

                        ولذلك جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس ، فقال : " ما بال هذا ؟ " ، فقالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " مروه فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صيامه .

                        فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع بما ليس بمشروع ألبتة ، وأمره بالوفاء بما هو مشروع في الأصل ، فلولا [ أن ] للفرق بينهما معنى ؛ لم يكن للتفرقة بينهما معنى مفهوم .

                        وأيضا ؛ فإذا كان الداخل مأمورا بالدوام ؛ لزم من ذلك أن يكون الدخول طاعة ، بل لا بد ؛ لأن المباح ـ فضلا عن المكروه والمحرم ـ لا يؤمر بالدوام عليه ، ولا نظير لذلك في الشريعة .

                        وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله فليطعه .

                        ولأن الله مدح من أوفى بنذره في قوله سبحانه : يوفون بالنذر في معرض المدح وترتيب الجزاء الحسن .

                        [ ص: 398 ] وفي آية الحديد : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ، ولا يكون الأجر إلا على مطلوب شرعا .

                        فتأملوا هذا المعنى ، فهو الذي يجري عليه عمل السلف الصالح رضي الله عنهم بمقتضى الأدلة ، وبه يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي ، حتى تنتظم الآيات والأحاديث وسير من تقدم ، والحمد لله .

                        غير أنه يبقى بعدها إشكالان قويان ، وبالنظر في الجواب عنهما ينتظم معنى المسألة على تمامه ، فنعقد في كل إشكال فصلا .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية