الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        إذا ثبت هذا ؛ فكل من عمل على هذا القصد ؛ فعمله غير صحيح ؛ لأنه عامل : إما بغير شريعة ؛ لأنه لم يتبع أدلتها ، وإما عامل بشرع منسوخ ، والعمل بالمنسوخ مع العلم بالناسخ باطل بلا خلاف ؛ لأن الترهب والامتناع من اللذات والنساء . . . وغير ذلك ؛ إن كان مشروعا ؛ ففيما قبل هذه الشريعة من الشرائع ، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم : لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، وهو معنى البدعة .

                        فإن قيل : فقد تقدم من نقل ابن العربي في الرهبانية أنها السياحة واتخاذ الصوامع للعزلة ؛ قال : " وذلك مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان " .

                        [ ص: 434 ] وقد بسط الغزالي هذا الفصل في " الإحياء " عند ذكر العزلة ، وذكر في كتاب آداب النكاح من ذلك ما فيه كفاية .

                        وحاصله أن ذلك مشروع ، بل هو الأولى عند عروض العوارض ، وعندما يصير النكاح ومخالطة الناس وبالا على الإنسان ، ومؤديا إلى اكتساب الحرام والدخول فيما لا يجوز ؛ كما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال ، ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن . . . وسائر ما جاء في هذا المعنى .

                        وأيضا ؛ فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ، والتبتل ـ على ما قاله زيد بن أسلم ـ رفض الدنيا ؛ من قولهم : بتلت الحبل بتلا ؛ إذا قطعته ، ومعناه : القطع من كل شيء إلا منه .

                        وقال الحسن وغيره : " بتل إليه نفسه واجتهد " .

                        وقال ابن زيد : " تفرغ لعبادته " .

                        هذا إلى ما جاء عن السلف الصالح من الانقطاع إلى عبادة الله ، ورفض أسباب الدنيا ، والتخلي عن الحواضر إلى البوادي ، واتخاذ الخلوات في الجبال والبراري ، حتى إن بعض الجبال الشامية قد خصها الله بالأولياء والمنقطعين إلى لبنان ونحوه .

                        فما وجه ذلك ؟

                        [ ص: 435 ] فالجواب : أن الرهبانية إن كانت بالمعنى المقرر في شرائع الأول فلا نسلم أنها في شرعنا ؛ لما تقدم من الأدلة على نسخها ، كانت لعارض أو لغير عارض ، إذ لا رهبانية في الإسلام ، وقد رد صلى الله عليه وسلم التبتل حسبما تقدم .

                        وإن كانت بمعنى الانقطاع إلى الله حسبما شرع وعلى حد ما انقطع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المخاطب بقوله : وتبتل إليه تبتيلا ؛ فهذا هو الذي نحن في تقريره ، وأنه السنة المتبعة والهدي الصالح والصراط المستقيم .

                        وليس في كلام زيد بن أسلم وغيره في معنى التبتل ما يناقض هذا المعنى ؛ لأن رفض الدنيا ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها ، بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية .

                        واجعل سير السلف الصالح مرآة لك تنظر فيها معنى التبتل على وجه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقد كانوا ( رضي الله تعالى عنهم ) مكتسبين للمال به فيما أبيح لهم ، منفقين له حيث ندبوا ، لم يتعلق بقلوبهم منه شيء ، إذا عن لهم أمر أو نهي ، بل قدموا أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم العاجلة على وجه لم يخل بحظوظهم فيه ، وهو التوسط الذي تقدم ذكره .

                        ثم ندبهم الشارع إلى اتخاذ الأهل والولد ، فبادروا إلى الامتثال ، ولم يقولوا : هو شاغل لنا عما أمرنا به ؛ لأن هذا القول مشعر بالغفلة عن معنى التكليف به ؛ فإن الأصل الشرعي أن كل مطلوب هو من جملة ما يتعبد به [ ص: 436 ] إلى الله تعالى ويتقرب به إليه ، فالعبادات المحضة ظاهر فيها ذلك ، والعادات كلها إذا قصد بها امتثال أمر الله عبادات ؛ إلا أنه إذا لم يقصد بها ذلك القصد ، ويجيء بها نحو الحظ مجردا ، فإذ ذاك ؛ لا تقع متعبدا بها ، ولا مثابا عليها ، وإن صح وقوعها شرعا .

                        فالصحابة رضي الله تعالى عنهم قد فهموا هذا المعنى ، ولا يمكن مع فهمه أن تتعارض الأوامر في حقهم ولا في حق من فهم منها ما فهموا ( منها ) .

                        فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل في الجريان على السنة ، وكذلك كلام الحسن وغيره في تفسير الآية صحيح إذا أخذ هذا المأخذ ؛ أي : اتبع الهدى واتبع أمر ربك ؛ فإنه العليم بما يصلح لك ، والقائم على تدبيرك ، ولذلك قال على أثرها : رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ؛ أي : فكما أنه وكيل لك بالنسبة إلى ما ليس من كسبك ؛ فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تحت كسبك ، مما هو تكليف في حقك ، ومن جملة ما توكل لك فيه أن لا تدخل نفسك في عمل تحرج بسببه حالا ومآلا .

                        وقد فسر التبتل بأنه الإخلاص ، وهو قول مجاهد والضحاك .

                        وقال قتادة : " أخلص له العبادة والدعوة " .

                        فعلى هذا ؛ لا متعلق فيها لمورد السؤال .

                        [ ص: 437 ] فإذا تقرر هذا ؛ فالفرار من العوارض بالسياحة ، واتخاذ الصوامع ، وسكنى الجبال والكهوف ؛ إن كان على شرط أن لا يحرموا ما أحل الله من الأمور التي حرمها الرهبان ، بل على حد ما كانوا عليه في الحواضر ومجامع الناس ؛ لا يشددون على أنفسهم بمقدار ما يشق عليهم ؛ فلا إشكال في صحة هذه الرهبانية ؛ غير أنها لا تسمى رهبانية إلا بنوع من المجاز ، أو النقل العرفي الذي لم يجر عليه معتاد اللغة ، فلا تدخل في مقتضى قوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها ؛ لا في الاسم ولا في المعنى .

                        وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان ؛ فلا نسلم أنه في هذه الشريعة مندوب إليه ولا مباح ؛ لأنه كالشرع بغير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا ينتظمه معنى قوله صلى الله عليه وسلم : من رغب عن سنتي ؛ فليس مني .

                        وأما ما ذكره الغزالي وغيره من تفضيله العزلة على المخالطة ، وترجيح الغربة على اتخاذ أهل ؛ عند اعتوار العوارض ؛ فذلك يستمد من أصل آخر لا من هنا .

                        وبيانه أن المطلوبات الشرعية لا تخلو أن يكون المكلف قادرا على الامتثال فيها مع سلامته عند العمل لها من وقوعه في منهي عنه أو لا :

                        فإن كان قادرا في مجاري العادات بحيث لا يعارضه مكروه أو محرم ؛ فلا إشكال في كون الطلب متوجها عليه بقدر استطاعته على حد ما كان السلف الصالح عليه قبل وقوع الفتن .

                        [ ص: 438 ] وإن لم يقدر على ذلك إلا بوقوعه في مكروه أو محرم ؛ ففي بقاء الطلب هنا تفصيل ـ بحسب ما يظهر من كلام أبي حامد رحمه الله ( تعالى ) ـ ، إذ يكون المطلوب مندوبا ، لكنه لا يعمل به إلا بوقوعه في ممنوع :

                        فالمندوب ساقط عنه بلا إشكال ؛ كالمندوب للصدقة على المحتاج لا ( مال ) بيده إلا مال الغير ، فلا يجوز له العمل بالندب ؛ لأنه يقع بسببه في التصرف في مال الغير بغير إذنه ، لا يجوز ، فهو كالفاقد لما يتصدق به ، وكالقادم على مريضه المشرف ، أو دفن ميت يخاف تغييره بتركه ، ثم يقوم يصلي نافلة ، والمتزوج لا يجد إلا مالا حراما . . . وأشباه ذلك .

                        وقد يكون المطلوب واجبا ؛ إلا أن وقوعه فيه يدخله في مكروه ، وهذا غير معتد به ؛ لأن القيام بالواجب آكد ، أو يوقعه في ممنوع ؛ فهذا هو الذي يتعارض على الحقيقة .

                        إلا أن الواجبات ليست على وزان واحد ، كما أن المحرمات كذلك ، فلا بد من الموازنة ؛ فإن ترجح جانب الواجب ؛ صار المحرم في حكم العفو ، أو حكم التلافي إن كان مما تتلافى مفسدته ـ ، وإن ترجح جانب المحرم ؛ سقط حكم الواجب أو طلب بالتلافي ، وإن تعادلا في نظر المجتهد فهو مجال نظر المجتهدين ، والأولى ـ عند جماعة ـ رعاية جانب المحرم ؛ لأن درء المفاسد آكد من جلب المصالح .

                        فإذا كانت العزلة مؤدية إلى السلامة ؛ فهي الأولى في أزمنة الفتن ، والفتن لا تختص بفتن الحروب فقط ، فهي جارية في الجاه والمال وغيرهما من مكتسبات الدنيا ، وضابطها ما صد عن طاعة الله .

                        [ ص: 439 ] ومثل هذا ما يجري بين المندوب والمكروه وبين المكروهين .

                        وإن كانت العزلة مؤدية إلى ترك الجمعات ، والجماعات ، والتعاون على الطاعات . . . وأشباه ذلك ؛ فإنها [ موقعة في المحرم من جهة ، و ] أيضا سلامة من جهة أخرى ، ويقع التوازن بين المأمورات والمنهيات .

                        وكذلك النكاح ، إذا أدى إلى العمل بالمعاصي ، ولم يكن في تركه معصية ؛ كان تركه أولى .

                        ومن أمثلة ذلك ـ غير أنه مشكل ـ ما ذكره الوليد بن مسلم بسنده إلى حبيب بن مسلمة : أنه قال لـ معن بن ثور : هل تدري لم اتخذت النصارى الديارات ؟ قال معن : ولم ؟ قال : إنه لما أحدث الملوك البدع ، وضيعوا أمر النبيين ، وأكلوا الخنازير ؛ اعتزلوهم في الديارات ، وتركوهم وما ابتدعوا ، فتخلوا للعبادة ، قال حبيب لـ معن : فهل لك ؟ قال : ليس بيوم ذلك .

                        فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع في ديننا كذلك ، ومراده أن اعتزال الناس عند اشتهارهم بالبدع وغلبة الأهواء على حد ما شرع في ديننا مشروع ، لا أن نفس ما فعلت النصارى في رهبانيتها مشروع لنا ؛ لما ثبت من نسخه .

                        فعلى هذه الأحرف جرى كلام الإمام أبي حامد وغيره ممن نقل هو عنهم واحتج بهم ، ويدل على ذلك أن جماعة ممن نقل عنهم الترغيب في العزلة كانوا متزوجين ، ولم يكن ذلك مانعا من البقاء على ما هم عليه ؛ بناء منهم على التحري في الموازنة بين ما يلحقهم بسبب التزوج .

                        فلا إشكال إذا على هذا التقرير في كلام الغزالي ولا غيره ممن سلك [ ص: 440 ] مسلكه ؛ لأنهم بنوا على أصل قطعي في الشرع ، محكم لا ينسخه شيء ، وليس من مسألتنا بسبيل .

                        ولكن ثم تحقيق زائد لا يسع إيراده هاهنا ، وأصله مأخوذ من كتاب الموافقات من تمرن فيه حقق هذا المعنى على التمام ، وبالله تعالى التوفيق .

                        والحاصل أن مضمون هذا الفصل يقتضي أن العمل على الرهبانية المنفية في الآية بدعة من البدع الحقيقية لا الإضافية ، لرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لها أصلا وفرعا .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية