الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        الوجه الثاني من النقل : ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :

                        وهي كثيرة تكاد تفوت الحصر; إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على [ ص: 92 ] الباقي ونتحرى في ذلك بحول الله ما هو أقرب إلى الصحة .

                        فمن ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه; فهو رد . وفي رواية لـ مسلم : من عمل عملا ليس عليه أمرنا; فهو رد .

                        وهذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام ، لأنه جمع وجه المخالفة لأمره عليه السلام ، ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية .

                        وخرج مسلم ، عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : " أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة " .

                        وفي رواية; قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ، يحمد الله ، ويثني عليه بما هو أهله ، ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة .

                        وفي رواية للنسائي : " وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة في النار " .

                        وذكر أن عمر رضي الله عنه كان يخطب بهذه الخطبة .

                        [ ص: 93 ] وعن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا : أنه كان يقول : " إنما هما اثنتان : الكلام ، والهدى ، فأحسن الكلام كلام الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، ألا وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، إن كل محدثة بدعة " .

                        وفي لفظ : " غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم ، فكل محدثة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " .

                        وكان ابن مسعود يخطب بهذا كل خميس .

                        وفي رواية أخرى عنه : " إنما هما اثنتان : الهدى ، والكلام ، فأفضل الكلام أو أصدق الكلام كلام الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، ألا لا يتطاولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم ، ولا يلهينكم الأمل ، فإن كل ما هو آت قريب ، ألا إن بعيدا ما ليس آتيا .

                        وفي رواية أخرى عنه : " أحسن الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، و ( إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ) .

                        وروى ابن ماجه مرفوعا عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم ومحدثات الأمور ، فإن شر الأمور محدثاتها ، وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة .

                        [ ص: 94 ] والمشهور أنه موقوف على ابن مسعود .

                        وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا إلى الهدى; كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا .

                        وفي الصحيح أيضا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : من سن سنة خير فاتبع عليها; فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ومن سن سنة شر فاتبع عليها; كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا .

                        أخرجه الترمذي .

                        وروى الترمذي أيضا وصححه ، وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب . فقال قائل : يا رسول الله ؟ كأن هذا موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا ؟

                        فقال : " أوصيكم بتقوى الله ، والسمع والطاعة ، وإن كان عبدا [ ص: 95 ] حبشيا; فإنه من يعيش منكم بعدي; فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .

                        وروي على وجوه من طرق
                        .

                        وفي الصحيح عن حذيفة : أنه قال : يا رسول الله ! هل بعد هذا الخير شر ؟ قال : " نعم; قوم يستنون بغير سنتي ، ويهتدون بغير هديي " .

                        قال : فقلت : هل بعد ذلك الشر من شر ؟

                        قال : " نعم دعاة على نار جهنم ، من أجابهم ، قذفوه فيها " .

                        قلت : يا رسول الله ، صفهم لنا .

                        قال : " نعم; هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا " .

                        قلت : فما تأمرني إن أدركت ذلك ؟

                        قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " .

                        قلت : فإن لم يكن إمام ولا جماعة ؟

                        قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك
                        " .

                        وخرجه البخاري على نحو آخر .

                        [ ص: 96 ] وفي حديث الصحيفة : المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، من أحدث فيها حدثا ، أو آوى محدثا; فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " .

                        وهذا الحديث في سياق العموم ، فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع ، والبدع من أقبح الحدث ، وقد استدل به مالك في مسألة تأتي في موضعها بحول الله ، وهو وإن كان مختصا بالمدينة ; فغيرها أيضا يدخل في المعنى .

                        وفي الموطأ من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة : فقال : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " الحديث إلى أن قال فيه فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلم ، ألا هلم ، فيقال : إنهم قد بدلوا بعدك . فأقول : فسحقا فسحقا فسحقا .

                        حمله جماعة من العلماء على أنهم أهل البدع ، وحمله آخرون على المرتدين عن الإسلام .

                        [ ص: 97 ] والذي يدل على الأول ما خرجه خيثمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي ; قال : سألت أنس بن مالك ، فقلت : إن هاهنا قوما يشهدون علينا بالكفر والشرك ، ويكذبون بالحوض والشفاعة ، فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا ؟ قال : نعم; سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بين العبد والكفر أو الشرك ترك الصلاة ، فإذا تركها فقد أشرك ، وحوضي كما بين أيلة إلى مكة ، أباريقه كنجوم السماء أو قال : كعدد نجوم السماء ، له ميزابان من الجنة ، كلما نضب أمداه ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا ، وسيرده أقوام ذابلة شفاههم ، فلا يطعمون منه قطرة واحدة . من كذب به اليوم ، لم يصب منه الشراب يومئذ .

                        فهذا الحديث على أنهم من أهل القبلة ، فنسبتهم أهل الإسلام إلى الكفر من أوصاف الخوارج ، والتكذيب بالحوض من أوصاف أهل الاعتزال وغيرهم .

                        مع ما في حديث " الموطأ " من قول النبي صلى الله عليه وسلم : ألا هلم لأنه عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته ، وإلا; فلو لم يكونوا من الأمة; لم يعرفهم بالعلامة المذكورة .

                        [ ص: 98 ] وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموعظة ، فقال : " إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) .

                        قال : أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ، وإنه يستدعى برجال من أمتي ، فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) ، فيقال : هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " .

                        ويحتمل هذا الحديث أن يراد به أهل البدع ، كحديث " الموطأ " ، ويحتمل أن يراد به من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم .

                        وفي الترمذي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة .

                        حسن صحيح ، وفي الحديث روايات أخر ، سيأتي ذكرها والكلام عليها إن شاء الله . ولكن الفرق فيها عند أكثر العلماء فرق أهل البدع .

                        وفي الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا [ ص: 99 ] ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا .

                        وهو آت على وجوه كثيرة في البخاري وغيره .

                        وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : من سره أن يلقى الله غدا مسلما; فليحافظ على هؤلاء الصلوات ، حيث ينادى بهن ، فإن الله عز وجل شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته; لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم الحديث .

                        فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة !

                        وفي رواية : لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، لكفرتم ، وهو أشد في التحذير .

                        وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

                        إني تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور وفي رواية : فيه الهدى من استمسك به وأخذ به; كان على الهدى ، ومن أخطأه; ضل وفي رواية : من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة .

                        ومما جاء في هذا الباب أيضا ما خرج ابن وضاح ونحوه لابن وهب [ ص: 100 ] عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم; قال : سيكون في أمتي دجالون كذابون ، يأتونكم ببدع من الحديث ، لم تسمعوه أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم إياهم لا يفتنونكم .

                        وفي الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام قال : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ، فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله ، كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا ، حديث حسن .

                        ولابن وضاح وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها : من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام .

                        وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة ، فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك .

                        وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : من اقتدى بي ، فهو مني ، [ ص: 101 ] ومن رغب عن سنتي; فليس مني .

                        وخرج الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في دين الله ، والمكذب بقدر الله ، والمتسلط بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز به من أذل الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل لحرم الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله .

                        وفي رواية أبي بكر بن ثابت الخطيب : ستة لعنهم الله ولعنتهم ، وفيه : والراغب عن سنتي إلى بدع .

                        وفي الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن لكل عابد شرة ، ولكل شرة فترة ، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنتي ، فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك ، فقد هلك .

                        [ ص: 102 ] وفي معجم البغوي عن مجاهد ، قال : دخلت أنا وأبو يحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم; قال : ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاة لبني عبد المطلب ، فقالوا : إنها قامت الليل وصامت النهار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكني أنام وأصلي ، وأصوم وأفطر ، فمن اقتدى بي فهو مني ، ومن رغب عن سنتي ، فليس مني ، إن لكل عامل شرة ثم فترة ، فمن كانت فترته إلى بدعة ، فقد ضل ، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى .

                        وعن أبي وائل ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة : رجل قتل نبيا أو قتله نبي ، وإمام ضلالة وممثل من [ ص: 103 ] الممثلين .

                        وفي " منتقى حديث خيثمة " عن سليمان ، عن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فيحدثون البدعة ، قال عبد الله بن مسعود : فكيف أصنع إذا أدركتهم ؟ قال : تسألني يا ابن أم عبد الله كيف تصنع ؟ لا طاعة لمن عصى الله .

                        وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أكل طيبا ، وعمل في سنة ، وأمن الناس بوائقه ، دخل الجنة ، فقال رجل : يا رسول الله ! إن هذا اليوم في الناس لكثير ، قال : وسيكون في قرون بعدي ، حديث غريب .

                        وفي كتاب الطحاوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول [ ص: 104 ] الله صلى الله عليه وسلم قال : كيف بكم وبزمان أو قال : يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة ، وتبقى حثالة من الناس ، قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، اختلفوا فصارت هكذا وشبك بين أصابعه قالوا : وكيف بنا يا رسول الله ؟ قال : تأخذون بما تعرفون ، وتذرون ما تنكرون ، وتقبلون على أمر خاصتكم ، وتذرون أمر عامتكم .

                        وخرج ابن وهب مرسلا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والشعاب ، قالوا : وما الشعاب يا رسول الله ؟ قال : الأهواء .

                        وخرج أيضا : إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها .

                        وفي كتاب السنة للآجري من طريق الوليد بن مسلم عن معاذ بن جبل ; قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا حدث في أمتي البدع ، وشتم أصحابي ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

                        قال عبد الله بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم : ما إظهار العلم ؟

                        [ ص: 105 ] قال : إظهار السنة . والأحاديث كثيرة .

                        وليعلم الموفق أن بعض ما ذكر من الأحاديث يقصر عن رتبة الصحيح ، وإنما أتي بها عملا بما أصله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب ، وإذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السني الصحيح ، فما زيد من غيره ، فلا حرج في الإتيان به إن شاء الله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية