الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      المبحث الثالث وهو عقوبة الساحر شرعا ووعيدا .

      ( وحده ) أي حد الساحر ( القتل ) ضربه بالسيف ( بلا نكير ) بل هو ثابت بالكتاب من عموم النصوص في الكفار المرتدين وغيرهم ، كما أتى ثابتا ( في السنة المصرحة ) الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( مما رواه الترمذي ) محمد بن عيسى بن سورة بمهملتين ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى الترمذي الحافظ الضرير أحد الأعلام وصاحب الجامع والتفسير عن خلق مذكورين في تراجمهم [ ص: 555 ] من جامعه وغيره ، وعنه محمد بن إسماعيل السمرقندي وحماد بن شكر وأبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي راوي الجامع والهيثم بن كليب ، وخلق من أهل سمرقند ونسف وتلك الديار ، وقال ابن حبان : كان ممن جمع وصنف . قال أبو العباس المستغفري : مات سنة تسع وسبعين ومائتين ، مرفوعا ( وصححه ) موقوفا عن ( جندب ) هو ابن عبد الله بن سفيان البجلي العلقمي أو العلقي ، له ثلاثة وأربعون حديثا اتفقا على سبعة وانفرد مسلم بخمسة . روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو مجلز ، مات بعد الستين ، وقال رحمه الله تعالى : ( باب ما جاء في حد الساحر ، حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية حدثنا عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حد الساحر ضربه بالسيف " . هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع : هو ثقة ويروى عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوفا والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وهو قول مالك بن أنس ، وقال الشافعي : إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل من سحره ما يبلغ الكفر ، فإذا عمل عملا دون الكفر فلم ير عليه قتلا .

      ويعني بقوله ما يبلغ الكفر ; أي ما كان فيه اعتقاد التصرف لغير الله وصرف العبادة له كما يفعله عباد هياكل النجوم من أهل بابل وغيرهم والله أعلم . ( وهكذا في أثر . أمر بقتلهم ) يعني السحرة ، ( روي عن عمر ) ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي أبي حفص المدني أحد فقهاء الصحابة ، ثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأول من سمي أمير المؤمنين ، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا ، اتفقا على عشرة وانفرد البخاري في تسعة ومسلم بخمسة عشر ، وعنه أبناؤه عبد الله وعاصم وعبيد الله وعلقمة بن أبي وقاص وغيرهم ، شهد بدرا والمشاهد والمواقف ، وولي أمر الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنهما ، وفتح في أيامه عدة أمصار ، أسلم بعد أربعين [ ص: 556 ] رجلا ، عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا : " إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه " . ولما دفن قال ابن مسعود رضي الله عنه : ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم . استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين ودفن في أول سنة أربع وعشرين في الحجرة النبوية وهو ابن ثلاث وستين ، وصلى عليه صهيب ، ومناقبه جمة قد أفردت في مجلدات . وهذا الأثر المشار إليه في الباب هو ما رواه الإمامان الجليلان أحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إدريس الشافعي رحمهما الله تعالى قالا : أخبرنا سفيان هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . قال : فقتلنا ثلاث سواحر .

      ( وصح ) نقلا ( عن حفصة ) بنت عمر بن الخطاب العدوية أم المؤمنين رضي الله عنها ( عند مالك ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبي عبد الله المدني أحد الأعلام في الإسلام وإمام دار الهجرة ، ولد سنة ثلاث وتسعين ، وحمل به ثلاث سنين ، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى ورضي عنه . ( ما ) ; أي الذي ( فيه أقوى ) دليل ( مرشد للسالك ) وهو ما رواه في موطإه في " باب ما جاء في الغيلة والسحر من كتاب العقول : عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها ، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت ، قال مالك : الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره ، هو مثل الذي قال الله تعالى في كتابه : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك هو نفسه . ا هـ .

      قال ابن كثير رحمه الله [ ص: 557 ] تعالى : وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ، فقال الناس : سبحان الله يحيي الموتى ! ورآه رجل من صالح المهاجرين ، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك ، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال : إن كان صادقا فليحي نفسه ، وتلا قوله تعالى : ( أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) ( الأنبياء : 3 ) فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ، ثم أطلقه والله أعلم . وقال الإمام أبو بكر الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال : كان عند بعض الأمراء رجل يلعب ، فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله ، قال : آراه كان ساحرا . وحمل الشافعي رحمه الله تعالى قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا ، والله أعلم .

      وقال ابن كثير رحمه الله تعالى : فصل . وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يكفر بذلك ، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال : إن تعلمه ليتقيه أو ليتجنبه فلا يكفر ، ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر ، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إذا تعلم [ ص: 558 ] السحر قلنا له : صف لنا سحرك ، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر . وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر . قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ قال مالك وأحمد : نعم . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا . فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين ، وإذا فإنه يقتل حدا عندهم ، إلا الشافعي فإنه قال : يقتل والحالة هذه قصاصا . قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه : لا تقبل . وقال الشافعي وأحمد في الرواية : تقبل . وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر إذا كان مسلما ، وقال مالك وأحمد والشافعي : لا يقتل ، يعفى لقصة لبيد بن الأعصم . واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس ، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل ، والله أعلم .

      وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال : قرأ على أبي عبد الله ; يعني أحمد بن حنبل : عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال : يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها . وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال في الذمي : يقتل إن قتل سحره . وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر أحدا . الأولى : أنه يستتاب ، فإن أسلم وإلا قتل . والثانية : أنه يقتل وإن أسلم . وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته ; لأنه كالزنديق ، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه ، فإن [ ص: 559 ] قتل بسحره قتل . قال الشافعي : فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ عليه الدية .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية