الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 894 ] فصل اختصاصه صلى الله عليه وسلم باستفتاح باب الجنة


      وثانيا يشفع في استفتاح دار النعيم لأولي الفلاح     هذا وهاتان الشفاعتان
      قد خصتا به بلا نكران

      هذه الشفاعة الثانية في استفتاح باب الجنة ، وقد جاء في الأحاديث أنها أيضا من المقام المحمود ، وقال مسلم رحمه الله تعالى : حدثنا قتيبة بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم . قال قتيبة : حدثنا جرير عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا " .

      وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة " .

      وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن المختار بن فلفل قال : قال أنس بن مالك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أول شفيع في الجنة ، لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت ، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد " .

      وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب قالا : حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا [ ص: 895 ] سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد . فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك " .

      قال : حدثنا محمد بن طريف بن خليفة البجلي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا أبو مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة ، وأبو مالك عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة ، فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة ، فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم ؟ لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله عز وجل . قال فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك وإنما كنت خليلا من وراء وراء ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تعالى تكليما . فيأتون موسى عليه السلام فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله تعالى وروحه ، فيقول عيسى عليه السلام : لست بصاحب ذلك ، فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له ، وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط فيمر أولكم كالبرق " الحديث - تقدم باقيه في الصراط .

      وقال البخاري رحمه الله تعالى : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر قال : سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم ، وقال : إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن . فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم " . وزاد عبد الله : حدثني الليث قال حدثني ابن أبي جعفر " فيشفع ليقضى بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم " .

      [ ص: 896 ] ففي هذا الحديث الجمع بين ذكر الشفاعتين الأولى في فصل القضاء والثانية في استفتاح باب الجنة ، وسمي ذلك كله المقام المحمود .

      ( هذا ) أي ما ذكر ( وهاتان الشفاعتان ) المذكورتان اللتان هما المقام المحمود ( قد خصتا ) أي جعلهما الله تعالى خاصتين ( به ) أي بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وليستا لأحد غيره ( بلا نكران ) بين أهل السنة والجماعة ، بل ولم ينكرهما المعتزلة الذين أنكروا الشفاعة الثالثة في إخراج عصاة الموحدين من النار ، وهي المشار إليها بقولنا :


      وثالثا يشفع في أقوام     ماتوا على دين الهدى الإسلام
      وأوبقتهم كثرة الآثام     فأدخلوا النار بذا الإجرام
      أن يخرجوا منها إلى الجنان     بفضل رب العرش ذي الإحسان



      فهذه الشفاعة حق يؤمن بها أهل السنة والجماعة كما آمن بها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ودرج على الإيمان بذلك التابعون لهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأنكرها في آخر عصر الصحابة الخوارج وأنكرها في عصر التابعين المعتزلة وقالوا بخلود من دخل النار من عصاة الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ويشهدون أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت الحرام ويسألون الله الجنة ويستعيذون به من النار في كل صلاة ودعاء ، غير أنهم ماتوا مصرين على معصية عملية عالمين بتحريمها معتقدين مؤمنين بما جاء فيه الوعيد الشديد ، فقضوا بتخليدهم في جهنم مع فرعون وهامان وقارون ، فجحدوا قول الله عز وجل : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) ( ص : 28 ) وقوله عز وجل : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) ( الجاثية : 21 ) وقوله تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) ( القلم : 35 ) وغيرها من الآيات ، وسائر الأحاديث الواردة .

      وقال البخاري رحمه الله تعالى : وقال حجاج بن منهال حدثنا همام بن يحيى [ ص: 897 ] حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا ، فيأتون آدم فيقولون : أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا . قال فيقول : لست هناكم . قال ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهي عنها ، ولكن ائتوا نوحا أول نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض . فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم . ويذكر خطيئته التي أصاب سؤاله ربه بغير علم ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن . قال فيأتون إبراهيم فيقول : إني لست هناكم . ويذكر ثلاث كلمات كذبهن ، ولكن ائتوا موسى عبدا آتاه الله التوراة وكلمه وقربه نجيا . قال فيأتون موسى فيقول : إني لست هناكم . ويذكر خطيئته التي أصاب قتله النفس ، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله تعالى وكلمته . قال فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله تعالى أن يدعني فيقول : ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط . قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة " . قال قتادة : وقد سمعته يقول : " فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، ثم أعود فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت له ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط . قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرج فأدخلهم الجنة " قال قتادة : وسمعته يقول : " فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ، ثم أعود الثالثة فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجدا ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد وقل يسمع واشفع تشفع وسل تعط . قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال ثم أشفع فيحد لي فأخرج فأدخلهم الجنة " . قال قتادة : وقد سمعته يقول : " فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا [ ص: 898 ] من حبسه القرآن " أي وجب عليه الخلود . قال : ثم تلا هذه الآية : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) ( الإسراء : 79 ) قال : وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم .

      وقال أيضا : حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا - وذكره مختصرا ، وقال في الثالثة أو الرابعة - حتى ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن " وكان قتادة يقول عند هذا : أي وجب عليه الخلود " .

      ورواه مسلم من طرق بنحوه ، وقال رحمه الله تعالى : حدثنا أبو الربيع العتكي حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي . ح . وحدثنا سعيد بن منصور - واللفظ له - حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال : انطلقنا إلى أنس بن مالك ، وتشفعنا بثابت ، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحي ، فاستأذن لنا ثابت فدخلنا عليه وأجلس ثابتا معه على سريره فقال : يا أبا حمزة إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تحدثهم حديث الشفاعة . قال : حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض ، فيأتون آدم فيقولون له : اشفع لذريتك . فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله . فيأتون إبراهيم فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بموسى عليه السلام فإنه كليم الله . فيؤتى موسى فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله وكلمته . فيؤتى عيسى فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم . فأوتى فأقول : أنا لها ، فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي ، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يلهمنيه الله ، ثم أخر له ساجدا فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع . فأقول : رب أمتي أمتي ، [ ص: 899 ] فيقال : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها . فأنطلق فأفعل ، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا له فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع . فأقول : أمتي أمتي . فيقال لي : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها . فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربي عز وجل فأحمده تلك المحامد ، ثم أخر له ساجدا فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع . فأقول : يا رب أمتي . فيقال لي : انطلق ، فمن كان في قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار . فأنطلق فأفعل " هذا حديث أنس الذي أنبأنا به ، فخرجنا من عنده فلما كنا بظهر الجبان قلنا : لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف في دار أبي خليفة . قال فدخلنا عليه فسلمنا عليه فقلنا : يا أبا سعيد جئنا من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع مثل حديث حدثناه في الشفاعة . قال هيه . فحدثناه الحديث . فقال : هيه . قلنا : ما زادنا . قال : قد حدثنا به منذ عشرين سنة ، وهو يومئذ جميع ، ولقد ترك شيئا ما أدري أنسي الشيخ أو كره أن يحدثكم فتتكلوا ، قلنا له : حدثنا . فضحك وقال : خلق الإنسان من عجل ، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه " ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا ، فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع . فأقول : يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله . قال : ليس ذاك لك - أو قال ليس ذاك إليك - ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله " قال : فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه أراه قال : قبل عشرين سنة وهو يومئذ جميع .

      وقال أيضا : حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة وهشام صاحب الدستوائي عن قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ح وحدثني أبو غسان المسمعي ومحمد بن المثنى قالا : [ ص: 900 ] حدثنا معاذ وهو ابن هشام قال : حدثني أبي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة . ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة . ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " . زاد ابن منهال في روايته قال يزيد : فلقيت شعبة فحدثته بالحديث فقال شعبة : حدثنا به قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث ، إلا أن شعبة جعل مكان الذرة ذرة ، قال يزيد : صحف فيها أبو بسطام .

      وقال رحمه الله تعالى : حدثنا حجاج بن الشاعر حدثنا الفضل بن دكين حدثنا أبو عاصم يعني محمد بن أبي أيوب قال حدثني يزيد الفقير قال كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ، ثم نخرج على الناس ، قال فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له : يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي تحدثون والله تعالى يقول : ( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) ( آل عمران 192 ) و ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) ( الحج : 22 ) فما هذا الذي تقولون ؟ قال فقال : أتقرأ القرآن ؟ قلت : نعم . قال : فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه وسلم يعني الذي يبعثه الله فيه ؟ قلت : نعم . قال فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج . قال : ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه ، قال : وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك ، قال : غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها . قال : يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم ، قال : فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس ، فرجعنا قلنا : ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد ، أو كما قال أبو نعيم .

      [ ص: 901 ] وقال رحمه الله تعالى : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو ، سمع جابرا رضي الله عنه يقول : سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بأذنه يقول : إن الله يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة " .

      وفي رواية له عن حماد بن زيد قال : قلت لعمرو بن دينار : " أسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج قوما من النار بالشفاعة ؟ قال : نعم . " ورواه البخاري .

      وفي رواية له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج قوم من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير " قال الضغابيس وكان قد سقط فمه .

      وقال : حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام عن قتادة حدثنا أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج قوم من النار بعد ما مسهم منها سفع ، فيدخلون الجنة ، فيسميهم أهل الجنة الجهنميين " .

      وقال رحمه الله تعالى : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : " لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ، لما رأيت من حرصك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " .

      وهذه الشفاعة الثالثة قد فسر بها المقام المحمود أيضا كما في حديث أنس [ ص: 902 ] وحديث جابر رضي الله عنهما فيكون المقام المحمود عاما لجميع الشفاعات التي أوتيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن جمهور المفسرين فسروه بالشفاعتين الأوليين لاختصاصه صلى الله عليه وسلم بهما دون غيره من عباد الله المكرمين ، وأما هذه الشفاعة الثالثة فهي وإن كانت من المقام المحمود الذي وعده فليست خاصة به صلى الله عليه وسلم بل يؤتاها كثير من عباد الله المخلصين ، ولكن هو صلى الله عليه وسلم المقدم فيها ، ولم يشفع أحد من خلق الله تعالى في مثل ما يشفع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يدانيه في ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ثم بعده يشفع من أذن الله تعالى له من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين وسائر أولياء الله تعالى من المؤمنين المتقين ، ويشفع الأفراط كل منهم يكرمه الله تعالى على قدر ما هو له أهل ، ثم يخرج الله تعالى من النار برحمته أقواما بدون شفاعة الشافعين ، ولذا قلنا في ذلك :


      وبعده يشفع كل مرسل     وكل عبد ذي صلاح وولي
      ويخرج الله من النيران     جميع من مات على الإيمان
      في نهر الحياة يطرحونا     فحما فيحيون وينبتونا
      كأنما ينبت في هيآته     عب حميل السيل في حافاته



      تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه في طريق الرؤية قول النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى إذا فرغ الله تعالى من فصل القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار ، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار من ابن أدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون تحته كما تنبت الحبة في حميل السيل ، ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار هو آخر أهل النار دخولا الجنة " . الحديث تقدم بطوله .

      وتقدم حديث أبي سعيد المتفق عليه أيضا بطوله - وفيه في نعت المرور على [ ص: 903 ] الصراط : " حتى يمر آخرهم يسحب سحبا ، فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق ، قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا فيقول الله تعالى : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه ، ويحرم الله تعالى صورهم على النار فيأتونهم وبعضهم قد غار في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون ، فيقول : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون ، فيقول : اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه فيخرجون من عرفوا ، قال أبو سعيد : فإن لم تصدقوني فاقرءوا : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ) ( النساء : 40 ) فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون ، فيقول الجبار : بقيت شفاعتي فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواما قد امتحشوا فيلقون في نهر بأفواه الجنة يقال له ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة ، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر ، وما كان إلى الظل كان أبيض ، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ فيجعل في رقابهم الخواتيم فيدخلون الجنة ، فيقول أهل الجنة : هؤلاء عتقاء الرحمن ، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ، فيقال لهم : لكم ما رأيتم ومثله معه " .

      وفي لفظ مسلم " حتى إذا خلص المؤمنون من النار ، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار ، يقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون معنا ويحجون ، فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار ، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ، ثم يقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به ، فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا بهم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول : [ ص: 904 ] ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه ، فيخرجون كثيرا ثم يقولون : ربنا لم نذر فيها خيرا " .

      وكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم : ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) ( النساء : 40 ) فيقول الله عز وجل : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ، ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ؛ ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر ، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض . فقالوا : يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية ، قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه ، ثم يقول : ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم ، فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، فيقول : لكم عندي أفضل من هذا فيقولون : ربنا أي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول : رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا " .

      وفيهما من حديثه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل الله أهل الجنة الجنة ، يدخل من يشاء في رحمته ، ويدخل أهل النار النار ثم يقول : انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه ، فيخرجون منها حمما قد امتحشوا فيلقون في نهر الحياة أو الحيا فينبتون فيه كما تنبت الحبة إلى جانب السيل ، ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية - وفي رواية لمسلم : كما تنبت الغثاءة في جانب السيل " .

      وله عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم - أو قال [ ص: 905 ] بخطاياهم - فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل . فقال رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان بالبادية " .

      وللترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي " هذا حديث حسن غريب .

      وله عن عبد الله بن شقيق قال : كنت مع رهط بإيلياء فقال رجل منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم . قيل : يا رسول الله سواك ؟ قال : سواي " . فلما قام قلت : من هذا ؟ قالوا : هذا ابن أبي الجذعاء . هذا حديث حسن صحيح غريب ، وابن أبي الجذعاء هو عبد الله ، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد . ورواه ابن ماجه .

      وللترمذي أيضا عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أمتي من يشفع للفئام من الناس ، منهم من يشفع للقبيلة ومنهم من يشفع للعصبة ومنهم من يشفع للرجل حتى يدخلوا الجنة " هذا حديث حسن .

      [ ص: 906 ] وروى أبو داود عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين " ورواه ابن ماجه . وله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى ، ترونها للمتقين ، لا ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين .

      وله عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون ما خيرني ربي الليلة ؟ قلنا : الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم ، قال : فإنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة . قلنا : يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها ، قال : هي لكل مسلم " . ورواه الترمذي بلفظ " فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا " . والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا مشهورة مستفيضة بل متواترة ، وقد ذكرنا منها ما فيه كفاية ، وتقدم في أحاديث الرؤية جملة منها عن جماعة من الصحابة ، وبقي من النصوص في هذا الباب كثير ، وبالله التوفيق .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية