الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 1004 ] ( فصل ) : ست مسائل تتعلق بمباحث الدين .

      في مسائل تتعلق بما تقدم من مباحث الدين :

      ( الأولى ) : كون الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية .

      ( والثانية ) : تفاضل أهله فيه .

      ( والثالثة ) : أن فاسق أهل الملة الإسلامية ، لا يكفر بذنب دون الشرك ولوازمه إلا إذا استحله .

      ( والرابعة ) : أنه لا يخلد في النار .

      ( والخامسة ) : أنه في العقاب وعدمه تحت المشيئة .

      ( والسادسة ) : أن التوبة في حق كل فرد مقبولة ، ما لم يغرغر سواء من كفر أو دونه من أي ذنب كان .

      1 - الإيمان يزيد وينقص .


      إيماننا يزيد بالطاعات ونقصه يكون بالزلات

      .

      هذه هي المسألة الأولى من مسائل الفصل ، وهي أن الإيمان يزيد وينقص ، وعلى ذلك ترجم البخاري - رحمه الله تعالى - في كتابه ، فقال في جامعه كتاب [ ص: 1005 ] الإيمان ، باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم : بني الإسلام على خمس ، وهو قول وفعل ، ويزيد وينقص ، قال الله تعالى : ( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) ، ( الفتح 4 ) ، ( وزدناهم هدى ) ، ( الكهف 13 ) ، ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ) ، ( مريم 76 ) ، وقال تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) ، ( محمد 17 ) ، ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) ، ( المدثر 31 ) ، وقوله تعالى : ( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) ، ( الأحزاب 22 ) .

      وقال الترمذي - رحمه الله تعالى : باب في استكمال الإيمان والزيادة والنقصان ، وساق فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله ، وحديث : يا معشر النساء تصدقن . . . الخ ، وهو في الصحيحين ، والشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب وذوي الرأي منكن .

      وذكر حديث أبي هريرة ، وهو في الصحيحين أيضا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الإيمان بضع وسبعون بابا ، فأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وأرفعها قول لا إله إلا الله . هذا لفظ الترمذي ، وقال : حسن صحيح ، ولفظه " بضع وستون " . ولمسلم رواية " بضع وسبعون " لكن قالا : " شعبة " بدل " بابا " .

      وقال النسائي : باب زيادة الإيمان ، وذكر فيه حديث الشفاعة ، ودلالته منطوقا [ ص: 1006 ] على تفاضل أهل الإيمان فيه ، وأما الزيادة والنقص ، فدلالته عليها مفهوما لا منطوقا .

      ومثله حديث أبي سعيد الخدري : رأيت الناس وعليهم قمص ، منها ما يبلغ الثدي . الحديث ، وفيه : وعرض علي عمر بن الخطاب ، وعليه قميص يجره ، قالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : الدين . ثم ذكر حديث عمر في نزول قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، ( المائدة 3 ) ، ودلالتها على ذلك منطوقا ، وعلى ذلك ترجم البخاري - رحمه الله تعالى - وقال : حدثنا الحسن بن الصباح ، سمع جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس قال : أخبرنا قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرءونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت ، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : أي آية ؟ قال : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ، ( المائدة 3 ) ، قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم ، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم جمعة . وعلى ذلك ترجم أبو داود وغيره من أئمة السنة ، وساقوا في ذلك أحاديث تتضمنه منطوقا ومفهوما .

      قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله تعالى : حدثنا يحيى بن يحيى التيمي وقطن بن نسير ، واللفظ ليحيى ، أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن حنظلة الأسيدي قال ، وكان من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لقيني أبو بكر - رضي الله عنه - فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قال قلت : نافق حنظلة . قال : سبحان الله ، ما تقول ؟ قال قلت : نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، عافسنا الأزواج [ ص: 1007 ] والأولاد الصغار ، فنسينا كثيرا . قال أبو بكر - رضي الله عنه : فوالله ، إنا لنلقى مثل هذا . فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت : نافق حنظلة يا رسول الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ قلت : يا رسول الله ، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة ، حتى كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك ، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيرا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر ، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ، ساعة وساعة . ثلاث مرات .

      حدثني إسحاق بن منصور ، أخبرنا عبد الصمد ، سمعت أبي يحدث ، حدثنا سعيد الجريري ، عن أبي عثمان النهدي ، عن حنظلة قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوعظنا ، فذكر النار . قال : ثم جئت إلى البيت ، فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة ، قال : فخرجت فلقيت أبا بكر ، فذكرت ذلك له . قال : وأنا قد فعلت مثل ما تذكر . فلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، نافق حنظلة . فقال : مه ! فحدثته بالحديث ، فقال أبو بكر : وأنا قد فعلت مثل ما فعل . فقال : يا حنظلة ، ساعة ساعة ، ولو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر ، لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق . ومن طريق ثالث : فذكرنا الجنة والنار . . . الحديث .

      وعلى هذا إجماع الأئمة المعتد بإجماعهم ، وأن الإيمان قول وعمل ، ويزيد وينقص ، وإذا كان ينقص بالفترة عن الذكر ، فلأن ينقص بفعل المعاصي من باب أولى ، كما سيأتي إن شاء الله - تبارك وتعالى - بيانه قريبا .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية