الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      [ ص: 193 ] طبقة أخرى

      وقال المزني في عقيدته : الحمد لله أحق ما بدى ، وأولى من شكر ، وعليه أثني ، الواحد الصمد ، ليس له صاحبة ولا ولد ، جل عن المثل ، فلا شبيه له ولا عديل ، السميع البصير العليم الخبير المنيع الرفيع ، عال على عرشه ، فهو دان بعلمه من خلقه ، والقرآن كلام الله ومن الله ، ليس بمخلوق فيبيد ، وقدرة الله ونعته وصفاته كلمات غير مخلوقات ، دائمات أزليات ، ليس محدثات فتبيد ، ولا كان ربنا ناقصا فيزيد ، جلت صفاته عن شبه المخلوقين ، عال على عرشه ، بائن من خلقه ، وذكر ذلك المعتقد وقال : لا يصح لأحد توحيد حتى يعلم أن الله على عرشه بصفاته . قلت : مثل أي شيء ؟ قال : سميع بصير عليم قدير . رواه ابن منده .

      وسئل محمد بن يحيى الذهلي - رحمه الله تعالى - عن حديث عبد الله بن معاوية ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ليعلم العبد أن الله معه حيث كان ، فقال : يريد أن الله علمه محيط بكل ما كان ، والله على العرش .

      وقال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله تعالى - في آخر الجامع الصحيح في كتاب الرد على الجهمية : باب قوله تعالى : ( وكان عرشه على الماء ) ، قال أبو العالية : استوى على عرشه : ارتفع . وقال مجاهد في استوى : علا على العرش . وقالت زينب أم المؤمنين - رضي الله عنها : زوجني الله من فوق سبع سماوات .

      ثم إنه بوب - رحمه الله تعالى - على أكثر ما تنكره الجهمية من الصفات محتجا بالآيات والأحاديث .

      وقال أبو زرعة الرازي ، وسئل عن تفسير ( الرحمن على العرش استوى ) ، فغضب وقال : تفسيره كما تقرأ ، هو على عرشه ، وعلمه في كل مكان ، من قال غير هذا ، فعليه لعنة الله . وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سألت أبي وأبا زرعة - رحمهما الله تعالى - عن مذهب أهل السنة والجماعة في أصول [ ص: 194 ] الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، حجازا وعراقا ، ومصرا وشاما ويمنا ، فكان من مذهبهم أن الله - تبارك تعالى - على عرشه ، بائن من خلقه ، كما وصف نفسه بلا كيف ، أحاط بكل شيء علما . وقال محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي أبو حاتم الرازي : ونعتقد أن الله - عز وجل - على عرشه ، بائن من خلقه ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . رواه أبو القاسم الطبري .

      وقال يحيى بن معاذ الرازي : إن الله على العرش ، بائن من خلقه ، أحاط بكل شيء علما ، لا يشذ عن هذه المقالة إلا جهمي يمزج الله بخلقه . رواه صاحب الفاروق .

      وعن محمد بن أسلم الطوسي - رحمه الله تعالى - قال : قال لي عبد الله بن طاهر : بلغني أنك لا ترفع رأسك إلى السماء ، فقلت : وهل أرجو الخير إلا ممن هو في السماء ؟ رواه الحاكم في ترجمته . وقال عبد الوهاب الوراق : من زعم أن الله هاهنا ، فهو جهمي خبيث ، إن الله - عز وجل - فوق العرش ، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة .

      وكتب حرب الكرماني إلى عبد الرحمن بن محمد الحنظلي : إن الجهمية أعداء الله ، وهم الذين يزعمون أن القرآن مخلوق ، وأن الله لم يكلم موسى ، ولا يرى في الآخرة ، ولا يعرف لله مكان ، وليس على العرش ولا كرسي ، وهم كفار فاحذرهم . وقال عثمان بن سعيد الدارمي الإمام في كتاب النقض : قد اتفقت الكلمة بين المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته ، يعلم ويسمع من فوق العرش ، لا تخفى عليه خافية من خلقه ، ولا يحجبهم عنه شيء . وقال أبو محمد بن قتيبة رحمه الله تعالى : كيف يسوغ لأحد أن يقول إن الله - سبحانه - بكل مكان على الحلول فيه ، مع قوله : ( الرحمن على العرش ) ، ومع قوله : ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ، كيف يصعد إليه شيء هو معه ؟ وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهو معه ؟ قال : لو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرتهم ، وما ركبت عليه ذواتهم من معرفة الخالق ، لعلموا أن الله - عز وجل - هو العلي الأعلى ، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه ، والأمم كلها عجميها وعربيها تقول : إن الله في السماء ما تركت على فطرها .

      وقال أبو بكر بن عاصم الشيباني : [ ص: 195 ] جميع ما في كتابنا - كتاب السنة الكبير - من الأخبار التي ذكرنا أنها توجب العلم فنحن نؤمن بها ; لصحتها وعدالة ناقليها ، ويجب التسليم لها على ظاهرها ، وترك تكلف الكلام في كيفيتها ، فذكر من ذلك النزول إلى السماء الدنيا ، والاستواء على العرش . وقال أبو عيسى محمد بن سورة الترمذي - رحمه الله - في جامعه لما روى حديث أبي هريرة ، وهو خبر منكر عند أهل الحديث " لو أنكم أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى ، لهبط على الله " فقال : قال أهل العلم : أراد لهبط على علم الله ، وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه .

      وقال أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني في كتاب السنة من سننه : باب في الجهمية ، وساق في ذلك حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال خلق الله الخلق ، فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئا ، فليقل : آمنت بالله . وفي رواية : فإذا قالوا ذلك ، فقولوا : الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ من الشيطان .

      وذكر حديث الأوعال ، وحديث جبير بن مطعم ، وحديث أذن لي أن أحدث عن ملك ، الحديث .

      وقد ترجم قبل ذلك وبعده على معتقدات أهل السنة ، وما ورد فيها من الأحاديث - رحمه الله تعالى - كالرؤية والنزول ، وطي السماوات والأرض ، وتكلم الله - عز وجل - والشفاعة والبعث ، وخلق الجنة والنار ، وفتنة القبر وعذابه ، والحوض والميزان ، وغير ذلك . ورد على طوائف الجهمية والمرجئة ، والخوارج والروافض ، رحمه الله تعالى .

      وقال ابن ماجه - رحمه الله تعالى - في سننه : باب ما أنكرت الجهمية [ ص: 196 ] ، فساق حديث الرؤية ، وحديث أبي رزين ، وحديث جابر : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، الحديث . تقدم ، وحديث الأوعال وغيرها . وكذلك مسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه ، وغيرهم من أهل السنن ساقوا أحاديث الصفات ، وأمروها كما جاءت ، لم يتعرضوا لها بكيف ولا تأويل .

      وقال ابن أبي شيبة رحمه الله تعالى : ذكروا أن الجهمية يقولون : ليس بين الله وبين خلقه حجاب ، وأنكروا العرش وأن الله فوقه ، وقالوا : إنه في كل مكان ، ففسرت العلماء ( وهو معكم ) يعني علمه ، ثم تواترت الأخبار أن الله خلق العرش فاستوى عليه ، فهو فوق العرش متخلصا من خلقه ، بائنا منهم .

      وقال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى : لا يجوز لمؤمن أن يقول كيف الاستواء لمن خلق الاستواء ؟ ولنا عليه الرضا والتسليم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنه - تعالى - على العرش .

      قال : وإنما سمي الزنديق زنديقا ; لأنه وزن دق الكلام بمخبول عقله ، وترك الأثر وتأول القرآن بالهوى ، فعند ذلك لم يؤمن بأن الله - تعالى - على عرشه .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية