الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

      التالي السابق


      ش روى مسلم في ( صحيحه ) عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، فرددها مرارا ، ثم قال أبي : آية الكرسي ، فوضع النبي يده على كتفه ، وقال : ليهنك هذا العلم أبا المنذر ، وفي رواية عند أحمد : والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش .

      [ ص: 117 ] ولا غرو ، فقد اشتملت هذه الآية العظيمة من أسماء الرب وصفاته على ما لم تشتمل عليه آية أخرى .

      فقد أخبر الله فيها عن نفسه بأنه المتوحد في إلهيته ، الذي لا تنبغي العبادة بجميع أنواعها وسائر صورها إلا له .

      ثم أردف قضية التوحيد بما يشهد لها من ذكر خصائصه وصفاته الكاملة ، فذكر أنه الحي الذي له كمال الحياة ؛ لأن حياته من لوازم ذاته ، فهي أزلية أبدية ، وكمال حياته يستلزم ثبوت جميع صفات الكمال الذاتية له ، من العزة والقدرة والعلم والحكمة والسمع والبصر والإرادة والمشيئة وغيرها ؛ إذ لا يتخلف شيء منها إلا لنقص في الحياة ، فالكمال في الحياة يتبعه الكمال في سائر الصفات اللازمة للحي .

      ثم قرن ذلك باسمه القيوم ، ومعناه الذي قام بنفسه ، واستغنى عن جميع خلقه غنى مطلقا لا تشوبه شائبة حاجة أصلا ؛ لأنه غنى ذاتي ، وبه قامت الموجودات كلها ، فهي فقيرة إليه فقرا ذاتيا ، بحيث لا تستغني عنه لحظة ، فهو الذي ابتدأ إيجادها على هذا النحو من الإحكام والإتقان ، وهو الذي يدبر أمورها ، ويمدها بكل ما تحتاج إليه في بقائها ، وفي بلوغ الكمال الذي قدره لها .

      فهذا الاسم متضمن لجميع صفات الكمال الفعلية ، كما أن اسمه الحي متضمن لجميع صفات الكمال الذاتية ، ولهذا ورد أن الحي القيوم هما اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب .

      [ ص: 118 ] ثم أعقب ذلك بما يدل على كمال حياته وقيوميته ، فقال : ( لا تأخذه ) أي لا تغلبه ( سنة ) ؛ أي نعاس ( ولا نوم ) ؛ فإن ذلك ينافي القيومية ؛ إذ النوم أخو الموت ، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون .

      ثم ذكر عموم ملكه لجميع العوالم العلوية والسفلية ، وأنها جميعا تحت قهره وسلطانه ، فقال : له ما في السماوات وما في الأرض .

      ثم أردف ذلك بما يدل على تمام ملكه ، وهو أن الشفاعة كلها له ، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه .

      وقد تضمن هذا النفي والاستثناء أمرين :

      أحدهما : إثبات الشفاعة الصحيحة ، وهي أنها تقع بإذنه سبحانه لمن يرضى قوله وعمله .

      والثاني : إبطال الشفاعة الشركية التي كان يعتقدها المشركون لأصنامهم ، وهي أنها تشفع لهم بغير إذن الله ورضاه .

      ثم ذكر سعة علمه وإحاطته ، وأنه لا يخفى عليه شيء من الأمور المستقبلة والماضية .

      وأما الخلق فإنهم ولا يحيطون بشيء من علمه قيل : يعني من معلومه ، وقيل : من علم أسمائه وصفاته إلا بما شاء الله سبحانه أن يعلمهم إياه على ألسنة رسله ، أو بغير ذلك من طرق البحث والنظر والاستنتاج والتجربة .

      ثم ذكر ما يدل على عظيم ملكه ، وواسع سلطانه ، فأخبر أن كرسيه قد وسع السماوات والأرض جميعا .

      [ ص: 119 ] والصحيح في الكرسي أنه غير العرش ، وأنه موضع القدمين ، وأنه في العرش كحلقة ملقاة في فلاة .

      وأما ما أورده ابن كثير عن ابن عباس في تفسير الكرسي بالعلم ؛ فإنه لا يصح ، ويفضي إلى التكرار في الآية .

      ثم أخبر سبحانه بعد ذلك عن عظيم قدرته وكمال قوته بقوله : ولا يئوده حفظهما ؛ أي : السماوات والأرض وما فيهما .

      وفسر الشيخ رحمه الله ( يئوده ) ب : ( يثقله ويكرثه ) ، وهو من آده الأمر : إذا ثقل عليه .

      [ ص: 120 ] ثم وصف نفسه سبحانه في ختام تلك الآية الكريمة بهذين الوصفين الجليلين ؛ وهما : ( العلي ) ، و ( العظيم ) .

      فالعلي : هو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه : علو الذات : وكونه فوق جميع المخلوقات مستويا على عرشه .

      وعلو القدر : إذ كان له كل صفة كمال ، وله من تلك الصفة أعلاها وغايتها .

      وعلو القهر : إذ كان هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير .

      وأما العظيم فمعناه الموصوف بالعظمة ، الذي لا شيء أعظم منه ، ولا أجل ، ولا أكبر ، وله سبحانه التعظيم الكامل في قلوب أنبيائه وملائكته وأصفيائه .




      الخدمات العلمية