الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب

      التالي السابق


      ش تضمنت هذه الآيات إثبات أفعال له تعالى ناشئة عن صفة المحبة ، ومحبة الله عز وجل لبعض الأشخاص والأعمال والأخلاق صفة له قائمة به ، وهي من صفات الفعل الاختيارية التي تتعلق بمشيئته ، فهو يحب بعض الأشياء دون بعض على ما تقتضيه الحكمة البالغة .

      وينفي الأشاعرة والمعتزلة صفة المحبة ؛ بدعوى أنها توهم نقصا ؛ إذ المحبة في المخلوق معناها ميله إلى ما يناسبه أو يستلذه .

      [ ص: 135 ] فأما الأشاعرة ؛ فيرجعونها إلى صفة الإرادة ، فيقولون : إن محبة الله لعبده لا معنى لها إلا إرادته لإكرامه ومثوبته .

      وكذلك يقولون في صفات الرضا والغضب والكراهية والسخط ؛ كلها عندهم بمعنى إرادة الثواب والعقاب .

      وأما المعتزلة ؛ فلأنهم لا يثبتون إرادة قائمة به ، فيفسرون المحبة بأنها نفس الثواب الواجب عندهم على الله لهؤلاء ؛ بناء على مذهبهم في وجوب إثابة المطيع وعقاب العاصي .

      وأما أهل الحق ؛ فيثبتون المحبة صفة حقيقية لله عز وجل على ما يليق به ، فلا تقتضي عندهم نقصا ولا تشبيها .

      كما يثبتون لازم تلك المحبة ، وهي إرادته سبحانه إكرام من يحبه وإثابته .

      وليت شعري بماذا يجيب النافون للمحبة عن مثل قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة : إن الله إذا أحب عبدا ؛ قال لجبريل عليه السلام : إني أحب فلانا فأحبه ، قال : فيقول جبريل عليه السلام لأهل السماء : إن ربكم عز وجل يحب فلانا فأحبوه ، قال : فيحبه أهل السماء ، ويوضع له القبول في الأرض ، وإذا أبغضه فمثيل ذلك ، رواه الشيخان ؟ ! [ ص: 136 ] وقوله تعالى في الآية الأولى : ( وأحسنوا ) أمر بالإحسان العام في كل شيء ؛ لا سيما في النفقة المأمور بها قبل ذلك ، والإحسان فيها يكون بالبذل وعدم الإمساك ، أو بالتوسط بين التقتير والتبذير ، وهو القوام الذي أمر الله به في سورة الفرقان .

      روى مسلم في ( صحيحه ) عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله كتب الإحسان على كل شيء ؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته .

      وأما قوله : إن الله يحب المحسنين فهو تعليل للأمر بالإحسان ، فإنهم إذا علموا أن الإحسان موجب لمحبته ؛ سارعوا إلى امتثال الأمر به .

      وأما قوله في الآية الثانية : ( وأقسطوا ) ؛ فهو أمر بالإقساط ، وهو العدل في الحكم بين الطائفتين المتنازعتين من المؤمنين ، وهو من قسط إذا جار ، فالهمزة فيه للسلب ، ومن أسمائه تعالى : المقسط .

      [ ص: 137 ] وفي الآية الحث على العدل وفضله ، وأنه سبب لمحبة الله عز وجل .

      وأما قوله تعالى : فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ؛ فمعناه : إذا كان بينكم وبين أحد عهد كهؤلاء الذين عاهدتموهم عند المسجد الحرام ؛ فاستقيموا لهم على عهدهم مدة استقامتهم لكم ، فـ ( ما ) هنا مصدرية ظرفية .

      ثم علل ذلك الأمر بقوله : إن الله يحب المتقين ؛ أي : يحب الذين يتقون الله في كل شيء ، ومنه عدم نقض العهود .

      وأما قوله : إن الله يحب التوابين . . إلخ ؛ فهو إخبار من الله سبحانه وتعالى عن محبته لهذين الصنفين من عباده .

      أما الأول : فهم التوابون ؛ أي : الذين يكثرون التوبة والرجوع إلى الله عز وجل بالاستغفار مما ألموا به على ما تقتضيه صيغة المبالغة ، فهم بكثرة التوبة قد تطهروا من الأقذار والنجاسات المعنوية التي هي الذنوب والمعاصي .

      وأما الثاني : فهم المتطهرون الذين يبالغون في التطهر ، وهو التنظيف بالوضوء أو بالغسل من الأحداث والنجاسات الحسية ، وقيل : المراد بالمتطهرين هنا الذين يتنزهون من إتيان النساء في زمن الحيض أو في أدبارهن ، والحمل على العموم أولى .

      وأما قوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ؛ فقد روي عن الحسن في سبب نزولها أن قوما ادعوا أنهم يحبون الله ، فأنزل [ ص: 138 ] الله هذه الآية محنة لهم .

      وفي هذه الآية قد شرط الله لمحبته اتباع نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلا ينال تلك المحبة إلا من أحسن الاتباع والاستمساك بهديه عليه السلام .




      الخدمات العلمية