الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

واختلف أهل السنة في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه ينزل بذاته ، وهو قول الإمام أبي القاسم التيمي وهو من أجل الشافعية له التصانيف المشهورة كالحجة في بيان المحجة ، وكتاب الترغيب والترهيب وغيرهما ، وهو متفق على إمامته وجلالته ، قال شيخنا : وهذا قول طوائف من أهل الحديث والسنة والصوفية والمتكلمين ، وروي في ذلك حديث مرفوع لا يثبت رفعه .

قال أبو موسى المديني : إسناده مدخول وفيه يقال : وعلى بعضهم مطعن لا تقوم بمثله الحجة ، ولا يجوز نسبة قوله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كنا نعتقد صحته إلا أن يرد بإسناد صحيح .

وقالت طائفة منهم : لا ينزل بذاته ، وقالت فرقة أخرى : نقول ينزل ولا نقول بذاته ولا بغير ذاته ، بل نطلق اللفظ كما أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسكت عما سكت عنه .

واختلفوا أيضا هل يخلو العرش منه ؟ فقالت طائفة ينزل ويخلو منه العرش ، وقالت طائفة لا يخلو منه العرش ، قال القاضي أبو يعلى في كتاب الوجهين والروايتين : لا تختلف أصحابنا أن الله ينزل إلى سماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ، كما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم ثم ساق حديث أبي هريرة وابن مسعود وعبادة بن الصامت ثم قال : واختلفوا في صفته ، فذهب شيخنا أبو عبد الله إلى أنه نزول انتقال ، قال : لأن هذا حقيقة النزول عند العرب ، وهو نظير قوله في الاستواء بمعنى قعد ، قال : وهذا على ظاهر حديث عبادة بن الصامت .

( قلت ) يريد قوله ثم يعلو تبارك وتعالى على كرسيه ، قال لأن أكثر ما في هذا أنه من صفات الحدث في حقنا ، وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثا كالاستواء على العرش هو موصوف به مع اختلافنا في صفته ، وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفا [ ص: 470 ] به في القدم ، وكذلك نقول تكلم بحرف وصوت وإن كان هذا يوجب الحدث في حقنا ولم يوجبه في حقه ، وكذلك النزول .

قال : وحكى شيخنا عن طائفة من أصحابنا أنهم قالوا : ينزل ، معناه قدرته ولعل هذا القائل ذاهب إلى ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل أنه قال يوم احتجوا على : يومئذ ، تجيء البقرة يوم القيامة ويجيء تبارك وتعالى ، قلت لهم : هذا الثواب ، قال الله تعالى : ( وجاء ربك والملك صفا صفا ) إنما يأتي قدرته ، وإنما القرآن أمثال ومواعظ وزجر .

وذكر أحمد أيضا فيما خرجه في الحبس : كلام الله لا يجيء ولا يتغير من حال إلى حال ، ووجه هذا أن النزول هو الزوال والانتقال : ولهذا قلنا في الاستواء إنه لا بمعنى المماسة والمباينة ، لأن ذلك من صفات الحدث والانتقال وهذا من صفات الحدث .

قال : وحكى شيخنا عن طائفة أخرى من أصحابنا أنهم قالوا نثبت نزولا ولا نعقل معناه : هل هو بزوال أو بغير زوال كما جاء الخبر ، ومثل هذا ليس بممتنع في صفاته ، كما نثبت ذاتا لا تعقل ، قال وهذه الطريقة هي المذهب ، وقد نص عليها أحمد في مواضع ، فقال حنبل : قلت لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا ؟ قال : نعم ، قلت : نزوله بعلمه أم ماذا ؟ فقال لي : اسكت عن هذا وغضب غضبا شديدا، وقال أمض الحديث على ما روي .

قلت : أما قول ابن حامد إنه نزول انتقال فهو موافق قول من يقول يخلو منه العرش ، والذي حمله على هذا إثبات حقيقة ، وأن حقيقته لا تثبت إلا بالانتقال ورأى أنه ليس في العقل ولا في النقل ما يحيل الانتقال عليه ، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط ، هذه أنواع الفعل اللازم القائم به ، كما أن الخلق والرزق والإماتة والإحياء والقبض والبسط أنواع للفعل المتعدي ، وهو سبحانه موصوف بالنوعين وقد يجمعهما كقوله : ( خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) والانتقال جنس لأنواع المجيء والإتيان ، والنزول والهبوط ، والصعود . والدنو والتدلي ونحوها ، وإثبات النوع مع نفي جنسه جمع بين النقيضين .

قالوا : وليس في القول بلازم النزول والمجيء والإتيان والاستواء والصعود محذور [ ص: 471 ] البتة ، ولا يستلزم ذلك نقصا ولا سلب كمال ، بل هو الكمال نفسه ، وهذه الأفعال كمال ومدح ، فهي حق دل عليه النقل ، ولازم الحق حق كما أن العقل والنقل قد اتفقا على أنه سبحانه حي متكلم ، قدير عليم مريد ، وما لزم من ذلك تعين القول به ، فإنه لازم الحق ، وكذلك رؤيته تعالى بالأبصار عيانا في الآخرة هو حق ، فلازمه حق كائنا ما كان ، والعجب أن هؤلاء يدعون أنهم أرباب المعقولات ، وهم يجمعون بين إثبات الشيء ونفي لازمه ، ويصرحون بإثباته ، ويثبتون لوازمه بإثباته ، ويصرحون بنفيه ، ولهذا عقلاؤهم لا يسمحون بإثبات شيء من ذلك ، فلا يثبتون لله نزولا ولا مجيئا ، ولا إتيانا ولا دنوا ، ولا استواء ولا صعودا البتة ، وإثبات هذه الحقائق عندهم في الامتناع كإثبات الأكل والشرب والنوم ونحوها ، والفرق بين هذا وهذا ثابت عقلا ونقلا وفطرة وقياسا واعتبارا ، فالتسوية بينهما في غاية البطلان .

قالوا وقولنا إنه نزول لاعتبار لا محذور فيه ، فإنه ليس كانتقال الأجسام من مكان إلى مكان ، كما قلتم إن سمعه وبصره وحياته وقدرته وإرادته ليست كصفات الأجسام ، فليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .

قالوا ونحن لم نتقدم بين يدي الله ورسوله ، بل أثبتنا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، فألزمتم أنتم من أثبت ذلك القول بالانتقال ، ومعلوم أن هذا الإلزام إنما هو إلزام لله ورسوله ، فإنا لم نتعد ما وصف به نفسه ، فكأنكم قلتم من أثبت له نزولا ومجيئا وإتيانا ودنوا لزمه وصفه بالانتقال ، والله ورسوله هو الذي أثبت ذلك لنفسه فهو حق بلا ريب ، فكان جوابنا إن الانتقال إن لزم من إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وتصديقه في ذلك والإيمان به ، فلا بد من إثباته ضرورة ، وإن لم يلزم ، بطل إلزامكم ونظير هذا مناظرة جرت بين جهمي وسني .

قال الجهمي : أنت تزعم أن الله يرى في الآخرة عيانا بالأبصر ؟ قال السني : نعم ، فقال له الجهمي : هذا يلزم منه إثبات الجهة والحد وكون المرئي مقابلا للرائي مواجها له ، وهذا تشبيه وتجسيم ، قال له السني : قد دل القرآن والسنة المتواترة واتفاق الصحابة وجميع أهل السنة وأئمة الإسلام على أن الله يرى في الآخرة ، وقد شهد بذلك الرسول وبلغه الأمة ، وأعاده وأبداه ، فذلك حق لا ريب فيه ، فإن لزم ما ذكرت فلازم الحق حق ، وإن لم يلزم بطل سؤالك .

وقال بعض الجهمية لبعض أصحابنا : أتقول إن الله ينزل إلى سماء الدنيا ؟ فقال [ ص: 472 ] ومن أنا حتى أقول ذلك ، فقد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه الأمة ، فقال له الجهمي : هذا يلزم منه الحركة والانتقال ، فقال له السني : أنا لم أقل من عندي شيئا ، وهذا الإلزام لمن قال ذلك وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقه واجب علينا ، فإن كان تصديقه على ذلك بطل الإلزام به ، فبهت الجهمي .

قالوا وقد دل العقل والشرع على أن الله سبحانه حي فعال ، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل ، فالفعل الاختياري من لوازم الحياة فالإرادة والمشيئة من لوازم الفعل ، وللفعل لوازم لا يجوز نفيها ، إذ نفيها يستلزم نفي الفعل الاختياري ، ولهذا لما نفاها الدهرية والفلاسفة نفوا الفعل الاختياري من أصله .

قالوا : ومن لوازم الفعل والترك ، الحب والبغض وانتقال الفاعل من شأن إلى شأن ، والرب تبارك وتعالى كل يوم هو في شأن ، ومن كان على حال واحد قبل الفعل وحال الفعل وبعد الفعل لم يعقل كونه فاعلا باختياره ، بل ولا فاعلا البتة ، فليس مع نفاة لوازم الأفعال إلا إثبات ألفاظ لا حقائق لها .

والمقصود أن هؤلاء قالوا : نحن لم نصرح بالانتقال من عند أنفسنا ، ولكن الله ورسوله قالاه .

التالي السابق


الخدمات العلمية