الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مسائل الفروع اختلاف العقائد في الأصول ، فإنا وجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم اختلفوا بعده في أحكام الدين ، فلم يتفرقوا ولم يكونوا شيعا ، لأنهم لم يفارقوا الدين ، ونظروا فيما أذن لهم فاختلف أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة كمسألة الجد والمشركة وذوي الأرحام وأمهات الأولاد وغير ذلك ، فصاروا باختلاف في هذه الأشياء محمودين ، وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة لهذه الأمة حيث أيدهم بالتوفيق واليقين ، ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة ، وكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح ، وبقيت بينهم أخوة الإسلام ، ولم ينقطع عنهم نظام الألفة ، فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية أصحابها إلى النار وصاروا أحزابا انقطعت الأخوة في الدين وسقطت الألفة ، وهذا يدل على أن التنائي ، والفرقة إنما حدث في المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان ألقاها على أفواه أوليائه ليختلفوا ويرمي بعضها بعضا بالكفر ، فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس واختلفوا ، ولم يورث هذا الاختلاف بينهم عداوة ولا نقصا ولا تفرقا ، بل بقيت بينهم الألفة والنصيحة والمودة ، والرحمة والشفقة ، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام يجوز النظر فيها ، والآخر يقول من تلك الأقوال ما لا يوجب تبديعا ولا تكفيرا كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع بقاء [ ص: 601 ] الألفة والمودة ، وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض والتدابر والتقاطع ، وربما ارتقى إلى التكفير ، علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء ، بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها ويعرض عن الخوض فيها .

إن لله تعالى شرطا في تمسكنا بالإسلام أن نصبح في ذلك إخوانا ، فقال تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .

قال : ( فإن قال قائل ) : الخوض في مسائل القدر والصفات والإيمان يورث التقاطع والتدابر ، فيجب طرحها والإعراض عنها على ما قررتم .

( فالجواب ) : إنما قلنا هذا في المسائل المحدثة ، فأما هذه المسائل فلا بد من قبولها على ما ثبت به النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولا يجور لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها كما في أصل الإسلام والدعاء إلى التوحيد وإظهار الشهادتين ، وقد بينا أن الطريق المستقيم مع أهل الحديث وأن الحق فيما رووه ونقلوه .

( فإن قال قائل ) : أنتم سميتم أنفسكم أهل السنة وما نراكم في ذلك إلا مدعين لأنا وجدنا كل فرقة من الفرق تنتحل أتباع السنة ، وتنسب من خالفها إلى البدعة وليس على أصحابكم منها سمة وعلامة أنهم أهلها دون من خالفها من سائر الفرق ، وكلنا في انتحال هذا اللقب شركاء متكافئون ، ولستم بأولى بهذا اللقب إلا أن تأتوا بدلالة ظاهرة من الكتاب والسنة أو من إجماع المعقول .

( فالجواب ) : أن الأمر على ما زعمتم أنه لا يصح لأحد دعوى إلا ببينة عادلة أو بدلالة ظاهرة من الكتاب والسنة ، وهما لنا قائمتان بحمد الله ومنه قال الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فأمرنا اتباعه وطاعته فيما سنه وأمر به وما نهى عنه وما حكم به ، وقال : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " وقال : " ومن رغب عن سنتي فليس مني ، ومن أحب سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة " فعرفنا سنته ووجدناها بهذه الآثار [ ص: 602 ] المشتهرة التي رويت بالأسانيد الصحيحة المتصلة التي ينقلها حفاظ العلماء وثقاتهم بعضهم عن بعض .

ثم نظرنا فرأينا فرقة أصحاب الحديث لها أطلب وفيها أرغب ، ولها أجمع ، ولأصحابها أتبع ، فعلمنا يقينا أنهم أهلها دون من عداهم من جميع الفرق ، فإن صاحب كل حرفة أو صناعة إن لم يكن معه دلالة وآلة من آلات تلك الصناعة والحرفة ثم ادعى تلك الصناعة كان في دعواه مبطلا ، فإذا كانت معه آلات الصناعة والحرفة شهدت له تلك الآلات بصناعته ، بل شهد له كل من غايته قبل الاختيار ، كما إذا رأيت رجلا قد فتح باب دكانه على بز علمت أنه بزاز أو على تمر علمت أنه تمار أو على عطر علمت أنه عطار ، أو إذا رأيت بين يديه الكير والسندان والمطرقة علمت أنه حداد ، وكل صاحب صنعة يستدل على صناعته بآلته فحكم له بها بالمعاينة من غير اختيار ، فلو رأيت بين يدي إنسان قدوما أو منشارا ومثقبا وهو مستعد للعمل بها ثم سميته خياطا جهلت ، ولو قال صاحب التمر لصاحب العطر : أنا عطار ، وصاحب البناء للبزاز : أنا بزاز ، قال له : كذبت ، وصدقه الناس على تكذيبه ، ثم كل صاحب صنعة وحرفة يفتخر بصناعته ويجالس أهلها ويألفهم ويستفيد منهم ويحرص على بلوغ الغاية في صناعته ، وأن يكون فيها أستاذا ، ورأينا أصحاب الحديث قديما وحديثا هم الذين رحلوا في هذه الآثار وطلبوا فأخذوها من معادنها وحفظوها واغتبطوا بها ودعوا إلى اتباعها ، وعابوا من خالفهم ، وكثرت عندهم وفي أيديهم ، حتى اشتهروا بها كما يشتهر أصحاب الحرف والصناعات بصناعتهم وحرفهم ، ثم رأينا قوما انسلخوا من حفظها ومعرفتها وتنكبوا عن اتباع صحيحها وشهيرها ، وغنوا عن صحبة أهلها ، وطعنوا فيها وفيهم ، وزهدوا الناس في حقها وضربوا لها ولأهلها أسوأ الأمثال ، ولقبوهم أقبح الألقاب ، فسموهم نواصب ومشبهة وحشوية ومجسمة ، فعلمنا بهذه الدلائل الظاهرة والشواهد القائمة أن أولئك أحق بها من سائر الفرق .

ومعلوم أن الاتباع هو الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي صحت عنه والخضوع لها والتسليم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدنا أهل الأهواء بمعزل عن ذلك ، فهذه علامة ظاهرة ودليل واضح يشهد لأهل السنة باستحقاقها ، وعلى أهل البدع والأهواء بأنهم ليسوا من أهلها .

قلت : ولهم علامات أخر ( ومنها ) أن أهل السنة يتركون أقوال الناس لهم ، وأهل [ ص: 603 ] البدع يتركونها لأقوال الناس ( ومنها ) أن أهل السنة يعرضون أقوال الناس عليهم فما وافقها قبلوه وما خالفها طرحوه ، وأهل البدع يعرضونها على آراء الرجال ، فما وافق آراءها منها قبلوه وما خالفها تركوه وتأولوه ( ومنها ) أن أهل السنة يدعون عند التنازع إلى التحاكم إليها دون آراء الرجال وعقولها وأهل البدع يدعون إلى التحاكم إلى آراء الرجال ومعقولاتها ( ومنها ) أن أهل السنة إذا صحت لهم السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتوقفوا عن العمل بها واعتقاد موجبها على أن يوافقها موافق ، بل يبادرون إلى العمل بها من غير نظر إلى من وافقها أو خالفها ، وقد نص الشافعي على ذلك في كثير من كتبه ، وعاب على من يقول : لا أعمل بالحديث حتى أعرف من قال به ذهب إليه ، بل الواجب على من بلغته السنة الصحيحة أن يقبلها وأن يعاملها بما كان يعاملها به الصحابة حين يسمعونها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل نفسه منزلة من سمعها منه صلى الله عليه وسلم قال الشافعي : وأجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وهذا من أعظم علامات أهل السنة أنهم لا يتركونها إذا ثبتت عندهم لقول أحد من الناس كائنا من كان .

ومنها : أنهم لا ينتسبون إلى مقالة معينة ولا إلى شخص معين غير الرسول فليس لهم لقب يعرفون به ولا نسبة ينتسبون إليها ، إذا انتسب سواهم إلى المقالات المحدثة وأربابها كما قال بعض أئمة أهل السنة وقد سئل عنها فقال : السنة ما لا اسم له سوى السنة ، وأهل البدع ينتسبون إلى المقالة تارة كالقدرية والمرجئة ، وإلى القائل تارة كالهاشمية والنجارية والضراوية ، وإلى الفعل تارة كالخوارج والروافض ، وأهل السنة بريئون من هذه النسب كلها ، وإنما نسبتهم إلى الحديث والسنة ( ومنها ) أن أهل السنة إنما ينصرون الحديث الصحيح والآثار السلفية ، وأهل البدع ينصرون مقالاتهم ومذاهبهم ( ومنها ) أن أهل السنة إذا ذكروا السنة وجردوا الدعوة إليها نفرت من ذلك قلوب أهل البدع فلهم نصيب من قوله تعالى : وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا وأهل البدع إذا ذكرت لهم شيوخهم ومقالاتهم استبشروا بها فهم كما قال تعالى : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون

[ ص: 604 ] منها : أن أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق فلهم نصيب وافر من العلم والرحمة ، وربهم تعالى وسع كل شيء رحمة وعلما ، وأهل البدع يكذبون بالحق ويكفرون الخلق ، فلا علم عندهم ولا رحمة ، وإذا قامت عليهم حجة أهل السنة عدلوا إلى حبسهم وعقولهم إذا أمكنهم ، ورثة فرعون فإنه لما قامت عليه حجة موسى ولم يمكنه عنها جواب قال : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين ( ومنها ) أن أهل السنة إنما يوالون ويعادون على سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأهل البدع يوالون ويعادون على أقوال ابتدعوها ( ومنها ) أن أهل السنة لم يؤصلوا أصولا حكموها وحاكموا خصومهم إليها وحكموا على من خالفها بالفسق والتكفير ، بل عندهم الأصول كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة .

ومنها : أن أهل السنة إذا قيل لهم قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم وقفت قلوبهم عند ذلك ولم تعده إلى أحد سواه ، ولم تلتفت إلى ماذا قال فلان وفلان ، وأهل البدع بخلاف ذلك .

( ومنها ) أن أهل البدع يأخذون من السنة ما وافق أهواءهم ، صحيحا كان أو ضعيفا ويتركون ما لم يوافق أهواءهم من الأحاديث الصحيحة ، فإذا عجزوا عن رده نفوه عوجا بالتأويلات المستنكرة التي هي تحريف له عن مواضعه وأهل السنة ليس لهم هوى في غيرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية