الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

ذوو الأرواح الذين يلحقهم اللذة والآلام أربعة أصناف : الإنس والجن والبهائم والملائكة ، عند من يقول : إن فيهم من يعصي ويعاقب

فأما الإنس والجن فالمكلفون منهم يحصل لهم بالطاعات والمعاصي لذات وآلام تناسبها ، وأما الأطفال والمجانين فنوعان : نوع يدخلون الجنة إما بطريق التبعية أو بعد التكليف يوم القيامة ، كما جاءت به الآثار ، فهؤلاء إذا حصل لهم آلام يسيرة منقطعة كانت مصلحة لهم ورحمة ونعمة في جنب ما ينالهم من السعادة العظيمة والنعيم المقيم ، فما ينالهم من الآلام يجري مجرى إيلام الأب الشفيق لولده الطفل ، بكى أو بط أو قطع سلعة يعقبه كمال عافية وانتفاعه بنفسه وحياته ، فهذا الإيلام محض الإحسان إليه وما يقدر من حصول النعيم واللذة في الجنة بدون هذه الآلام فهو نوع آخر غير النوع الحاصل بعد الآلام ، ولهذه كانت اللذة الحاصلة بالأكل والشرب بعد [ ص: 240 ] شدة الجوع والظمأ أضعاف اللذة الحاصلة بدون ذلك ، وكذلك لذة الوصل بعد الهجران والبعاد المؤلم والشوق الشديد أعظم من اللذة الحاصلة بدونه ، ووجود الملزوم بدون لازمه محال ، ولا ريب أن لذة آدم بعده إلى الجنة بعد أن خرج منها إلى دار التعب أعظم من اللذة التي كانت حاصلة له أولا .

وأما غير المكلفين من الحيوانات فقد يقال : إنه ما من حيوان إلا ويحصل له من اللذة والخير والنعيم ما هو أعظم مما يحصل له من الألم بأضعاف مضاعفة فإنه يلتذ بأكله وشربه ونومه وحركته وراحته وجماعه الأنثى ، وغير ذلك ، فنعيمه ولذته أضعاف ألمه ، وحينئذ فالأقسام الأربعة : إما أن يعطل الجميع بترك خلق الحيوان لئلا يحصل له الألم ، أو يخلق على نشأة لا يلحقه بها ألم ، أو على صفة لا ينال بها لذة ، أو على هذه الصفة والنشأة التي هو عليها .

فالقسم الأول ممتنع لمنافاته للحكمة ، فإنه يستلزم تعطيل الكثير والنفع العظيم لما يستلزمه من مفسدة قليلة كتعطيل الأمطار والثلوج والرياح والحر والبرد لما يتضمنه من الآلام ، ولا ريب أن الحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك فترك الخير الكثير لأجل ما فيه من الشر القليل شر كثير .

وأما القسم الثاني فكما أنه ممتنع في نفسه إذ من لوازم إنشائه في هذا العالم أن يكون عرضة للحر والبرد والجوع والعطش والكلال والتعب وغيرها ، فإنه منشأ من هذا العالم الذي مزج خيره بشره ، والمنشأ خير منه كذلك ، فالحكمة تأبى إنشاءه لذلك في هذا العالم الذي مزج رخاؤه بشدته ، وبلاؤه بعافيته ، وألمه بلذته ، وسروره بغمه وهمه ، فلو اقتضت الحكمة تخليص نوع الحيوان من ألمه لكان الإنسان الذي هو خلاصته وأفضله أولى بذلك ، ولو فعل ذلك سبحانه لفاته مصلحة العبرة والدلالة على الآلام العظيمة الدائمة في الدار الآخرة ، فإن الله تعالى أشهد عباده بما أعد لهم من أنواع اللذات والآلام في الدار الآخرة بما أذاقهم إياه في هذه الدار ، فاستدلوا بالشاهد على الغائب واشتاقوا بما باشروه من اللذات إلى ما وصف لهم هناك منها واحتموا بما ذاقوا من الآلام هاهنا عما وصف لهم منها هناك ، ولا ريب أن هذه المصلحة العظيمة أرجح من تفويتها بما فيها من المفسدة اليسيرة .

وأما القسم الثالث فلا ريب أنه مفسدة خالصة أو راجحة فلا تقتضيه حكمة الرب سبحانه ، ولا يكون إيجاده مصلحة ، فلم يبق إلا القسم الرابع وهو خلقه على هذه النشأة .

[ ص: 241 ] فإن قيل : فقد ظهرت الحكمة في إيلام غير المكلفين ، فتعذيب المكلفين على ذنوبهم كيف تستقيم الحكمة فيه على قولكم بأن الله تعالى خلقها فيهم فأين العدل في تعذيبهم على ما هو فاعله وخالقه فيهم ؟ وإنما يستقيم ذلك على قول القدرية وأصولهم ، فإن العدل في ذلك ظاهر ، فإنه إنما يعذبهم على ما أحدثوه وكان بمشيئتهم و قدرتهم .

قيل : هذا السؤال لم يزل مطرقا بين العالم ، واختلف الناس فيه ، فطائفة أخرجت أفعالهم عن ملك الرب وقدرته ، وطائفة أنكرت الحكمة والتعليل وسدت باب السؤال ، وطائفة أثبتت كسبا لا يعقل ، جعلت الثواب والعقاب عليه ، وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين ، وطائفة التزمت الجبر وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه .

والجواب الصحيح عنه أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ، وإن كانت خلقا لله تعالى ، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها ، فالذنوب والأمراض التي يورث بعضها بعضا ، يبقى أن يقال في الكلام : فالذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب ؟ فيقال : هو عقوبة أيضا على عدم ما خلق له وفطر عليه ، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتألهه والإنابة إليه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة " ، وقال : يقول الله تعالى : " إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " ، وقد قال الله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ) ، فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه ، عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فلأنه [ ص: 242 ] صادف قلبا فارغا خاليا قابلا للخير والشر ، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن من الشر ، كما قال تعالى : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين ) ، وقال إبليس لعنه الله : ( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) ، وقال تعالى : ( هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) والإخلاص خلوص القلب من تأله من سوى الله وإرادته ومحبته ، فخلص لله ، فلم يتمكن الشيطان من إغوائه ، وأما إذا صادفه فارغا من ذلك تمكن منه بحسب فراغه وخلوه ، فيكون جعله مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة على عدم الإخلاص وهذا محض العدل .

فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه ؟ قلت : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به ، فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديا حتى يضاف إلى الفاعل ، بل هو شر محض ، والشر ليس إلى الرب تبارك وتعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الاستفتاح : " لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس إليك " ، وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة يوم القيامة : " يقول الله تعالى : يا محمد ، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس إليك " .

وقد أخبر تعالى أن تسلط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ، فلما تولوه دون الله وأشركوه معه عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الأولوية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص والإنابة العاصمة من ضدها ، فقد بين أن إخلاص الدين يمنع من سلطان الشيطان ، لأن فعل السيئات التي توجب العذاب ، فإخلاص القلب لله مانع له من فعل ما يضاده ، وإلهامه البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة خلوه من الإخلاص .

فإن قلت : هذا الترك إن كان أمرا وجوديا عاد السؤال : وإن كان أمرا عدميا فكيف يعاقب على العدم ؟ قلت : ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه فهذا [ ص: 243 ] قد يقال : إنه أمر وجودي ، وإنما هنا عدم وخلو عن أسباب الخير ، وهذا العدم ليس بكف للنفس ومنع لها عما تريده وتحبه ، بل هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها ، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل ، فلله سبحانه عقوبتان : إحداهما جعله خاطئا مذنبا لا يحس بألمها ومضرتها لموافقتها شهوته وإدارته ، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات ، والثانية : العقوبات المؤلمة بعد فعله السيئات ، وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله : ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) فهذه العقوبة الأولى ، ثم قال : ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ) فهذه العقوبة الثانية .

وأعط هذا الموضع حقه من التأمل ، وانظر كيف ترتبت هاتان العقوبتان إحداهما على الأخرى ، لكن العقوبة الأولى عقوبة موافقة لهواه وإرادته ، والثانية مخالفة لما يحبه ويتلذذ به ، وتأمل عدل الرب تعالى في هذه وهذه ، وأنه سبحانه إنما وضع العقوبة في محلها الأولى بها الذي لا يليق بها غيره ، وهذا أمر لو لم تشهده القلوب وتعرفه لما جاز أن ينسب إلى الله تعالى سواه ، ولا يظن به غيره ، فإنه من ظن السوء بمن يتعالى ويتقدس عن كل سوء وعيب .

فإن قلت : هل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له ، أو ذلك محض جعله في قلوبهم ؟ قلت : لا ، بل هو محض منته وفعله ، وهو من أعظم الخير الذي هو في يده ، فالخير كله في يديه ، ولا يقدر أحدنا أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه .

فإن قلت : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم عاد السؤال ، وكان منعهم منه ظلما ، ولزمك القول بأن العدل هو تصرف الملك في ملكه ؟ قيل : لا يكون بمنعه سبحانه لهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك الغير عليه ، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه ، وأما منع غيره ما ليس حقا محض فضله ومنته عليه لم يكن ظالما بمنعه .

فإن قلت : فإذا كان العطاء والبذل والتوفيق إحسانا ورحمة وفضلا ، فهلا كانت [ ص: 244 ] الغلبة له ، كما أن " رحمته تغلب غضبه " قيل : المقصود من هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة ليس بظلم ، وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ، وهلا ساوى بين العباد في الفضل ، وهذا السؤال حاصله : لم تفضل على هذا ولم يتفضل على هذا ؟ وقد تولى سبحانه الجواب عنه بقوله : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، وقوله : ( لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) ، وليس في الحكمة إطلاع فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه ، وتأمل أحوال محال ذلك ، واستدل بما علمه على ما لم يعلمه ، وتيقن أن مصدر ما علم وما لم يعلمه لحكمة بالغة لا توزن بعقول المخلوقين ، فقد وفق للصواب .

ولما استشكل المشركون هذا التخصيص قالوا : ( أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) فقال لهم الله مجيبا لهم : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ، وهذا جواب شاف كاف ، وفي ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر من المحل الذي لا يصلح لغرسها ، فلو كرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعا لا يليق بالحكمة كما قال تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته )

التالي السابق


الخدمات العلمية