الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل ) : ومن ذلك وهو قوله في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة : أن هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال : يا هاجر ، من أين أقبلت ؟ وإلى أين تريدين ؟ فلما شرحت له الحال ، قال : ارجعي فإني سأكثر ذريتك ، وزرعك حتى لا يحصون ، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا اسمه إسماعيل ، لأن الله تعالى قد سمع ذلك وخضوعك ، ولدك يكون وحشي الناس ، يده فوق يد الجميع ، ويد الكل به ، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوانه .

[ ص: 350 ] قال المستخرجون لهذه البشارة : معلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن فوق أيدي بني إسحاق ، بل في أيدي بني إسحاق النبوة والكتاب ، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب ، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد ، ثم خرجوا منها لما بعث موسى ، وكان مع موسى ( أعز أهل ) ، لم يكن لأحد عليهم يد ، ولذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود ، وملك سليمان الملك الذي لم يؤت أحد مثله ، فلم تكن يد بني إسماعيل ، ثم سلط الله عليهم بخت نصر ففعل بهم الأفاعيل ، ولم تكن يد بني إسماعيل عليهم ، ثم بعث الله المسيح فكفروا به ، وكذبوه ، فدمر الله عليهم تكذيبهم إياه ، وزال ملكهم ولم يقم لهم بعده قائمة ، وقطعهم الله في الأرض أمما . وكانوا تحت حكم الروم والفرس وقهرهم ، ولم يكن يد إسماعيل عليهم في هذا الحالة ، ولا كانت فوق الجميع إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا برسالته ، وأكرمه الله بنبوته فصارت بمبعثه يد بني إسماعيل فوق الجميع ، فلم يبق في الأرض سلطان أعز من سلطانهم ، بحيث قهروا سلطان فارس والروم والترك والديلم ، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وعباد الأصنام ، وظهر بذلك تأويل قوله في التوراة : " وتكون يده فوق الجميع ، ويد الكل به " وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر .

قالت اليهود : نحن لا ننكر هذا ، ولكن هذه بشارة بملكه وظهوره وقهره ، لا برسالته ونبوته .

قال المسلمون : الملك ملكان ، ملك ليس معه نبوة بل ملك جبار متسلط ، [ ص: 351 ] وملك نفسه نبوة ، والبشارة لم تقع بالملك الأول ، ولا سيما إذا ادعى صاحبه النبوة والرسالة ، وهو كاذب مفتر على الله فهو من شر الخلق وأفجرهم وأكفرهم ، فهذا لا تقع البشارة بملكه ، وإنما يقع التحذير من فتنته ، كما وقع التحذير من فتنة الدجال ، بل هذا شر من سنحاريب وبخت نصر ، والملوك الظالمة الفجرة الذين كذبوا على الله ، فالأخبار لا تكون بشارة ، ولا يفرح به هاجر وإبراهيم ، ولا بشر ممن أخبر بذلك ، ولا يكون ذلك إنابة لها من خضوعها وذلها ، فإن الله تعالى قد سمع ذلك ، ويعظم هذا المولود ويجعله لأمة عظيمة ، وهذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال : إنك ستلدين جبارا ظالما طاغيا يقهر الناس بالباطل ، ويقتل أولياء الله ، ويسبي حريمهم ، ويأخذ أموالهم بالباطل ، ويبدل أديان الأنبياء ، ويكذب على الله ، ونحو ذلك .

فمن حمل هذه البشارة على هذا فهو من أعظم الخلق بهتانا وفرية على الله ، وليس هذا بمستنكر لأمة الغضب ، وقتلة الأنبياء ، والقوم البهت .

التالي السابق


الخدمات العلمية