الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ذكر أقوال الفلاسفة المتقدمين والحكماء الأولين ] : فإنهم كانوا مثبتين لمسألة العلو والفوقية مخالفين لأرسطو وشيعته ، وقد نقل ذلك أعلم الناس بكلامهم وأشدهم اعتناء بمقالاتهم ابن [ ص: 323 ] رشد الحفيد قال في كتابه " مناهج الأدلة " : القول في الجهة : وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله ، وظواهر الشرع كلها تقتضي إثباتها لله تعالى مثل قوله سبحانه : ( الرحمن على العرش استوى ) ، وقوله تعالى : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) وقوله تعالى : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) ، وقوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ) ، وقوله تعالى : ( تعرج الملائكة والروح إليه ) ، وقوله تعالى : ( أأمنتم من في السماء ) إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله متأولا ، وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منها تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين ، وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى . قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات [ ص: 324 ] الجهة يوجب إثبات المكان ، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية . قال : ونحن نقول : إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان وذلك أن الجهة هي إما سطح نفس الجسم المحيط به وهي ستة ، وبهذا نقول أن للحيوان فوقا وسفلا ويمينا وشمالا وأماما وخلفا ، وإما سطوح جسم آخر محيط بالجسم من الجهات الست ، فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم أصلا وأما سطوح الجسم المحيط به فهي له مكان مثل سطوح الهوى المحيط بالإنسان ، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهوى هي أيضا مكان الهوى ، وهذه الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له وأما سطح الفلك الخارج فقد برهن أنه ليس خارجه جسم لأنه لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون خارج فلك الجسم أيضا جسم آخر ، ويمر الأمر إلى غير نهاية ، فإذا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم ، فإذا قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم ، فالذي يمتنع وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم وهو موجود ، هو جسم لا موجود ليس بجسم ، وليس لهم أن يقولوا أن خارج العالم خلاء وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيء أكثر من أبعاد ليس فيها جسم أعني طولا وعرضا وعمقا ؛ لأنه إن رفعت الأبعاد عنه عاد عدما وإن أنزل الخلاء موجود [ ص: 325 ] لزم أن يكون أعراض موجودة في غير جسم ، وذلك أن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية ولا بد ، ولكنه قد قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة أن ذلك " الموضع " هو مسكن الروحانيين ويريدون الله والملائكة ، وذلك أن ذلك الموضع ليس بمكان ولا ( يجوز ) أن يحويه زمان ، وكذلك إن كان كل ما يحويه الزمان والمكان فاسدا فقد يلزم أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن . وقد تبين هذا المعنى فيما أقوله وذلك أنه إذا لم يكن هاهنا شيء يدرك إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم ، وكان من المعروف بنفسه أن الموجود ( بنفسه ) إنما ينسب إلى الوجود أعني أنه تعالى موجود في الوجود إذ لا يمكن أن يقال له : موجود في العدم ، فإن كان هاهنا موجود فهو أشرف الموجودات ، فواجب إلى أن ينسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهو السماوات ، ولشرف هذا الجزء قال الله تعالى : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم ، قال : فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل ، وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه ، وأن إبطال هذه القواعد إبطال للشرائع ثم ساق تقرير ذلك إلى آخره فهذا كلام فيلسوف الإسلام الذي هو أخبر بمقالات الفلاسفة [ ص: 326 ] والحكماء وأكثر اطلاعا عليها من ابن سينا ، ونقلا لمذاهب الحكماء وكان لا يرضى بنقل ابن سينا ويخالفه نقلا وبحثا .

التالي السابق


الخدمات العلمية