الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ص: 200 ] ( فصل في ذكر قول الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه رحمه الله تعالى )

قال الخلال في كتاب السنة : حدثنا يوسف بن موسى ( قال ) : أخبرنا عبد الله بن أحمد قال : قيل لأبي : ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه ، وقدرته وعلمه بكل مكان ؟ قال : نعم ، لا يخلو شيء من علمه . قال الخلال : وأخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال : سألت أبا عبد الله أحمد عمن يقول : إن الله تعالى ليس على العرش فقال : كلامهم كله يدور على الكفر ، وروى أبو القاسم الطبري الشافعي في كتاب السنة له بإسناده عن حنبل قال : قيل لأبي عبد الله : ما معنى قوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) وقوله تعالى : ( وهو معكم ) قال : علمه محيط بالكل وربنا على العرش بلا حد ولا صفة وسع كرسيه السماوات والأرض ، وقال أبو طالب : سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال : إن الله معنا وتلا قوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) قال : يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها ، هلا قرأت عليه : ( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات ) فعلمه [ ص: 201 ] معهم وقال في ( ق ) ( ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) وقال المروزي : قلت لأبي عبد الله أن رجلا قال : أقول كما قال الله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ) أقول : هذا ولا أجاوزه إلى غيره فقال أبو عبد الله هذا كلام الجهمية فقلت له : فكيف نقول ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ) قال : علمه في كل مكان وعلمه معهم ، قال : أول الآية يدل على أنه علمه ، وقال في موضع آخر : وأن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة يعلم ما تحت الأرض السفلى وأنه غير مماس لشيء من خلقه هو تبارك وتعالى بائن من خلقه وخلقه بائنون منه . وقال في كتاب الرد على الجهمية الذي رواه عنه الخلال من طريق ابنه عبد الله قال : باب بيان ما نكرت الجهمية أن يكون الله تعالى على العرش ، قلنا لهم ما أنكرتم أن يكون الله تعالى على العرش ، وقد قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) ؟ فقالوا : هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش وفي السماوات والأرض وفي كل مكان وتلا : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) قال أحمد : فقلنا قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء أجسامكم وأجوافكم والحشوش والأماكن القذرة ليست فيها من عظمة الرب تعالى شيء ، وقد أخبرنا الله عز وجل أنه في السماء فقال : [ ص: 202 ] ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء ) الآية . وقال : ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وقال : ( إني متوفيك ورافعك إلي ) ( بل رفعه الله إليه ) ، ( يخافون ربهم من فوقهم ) . ذكر هذا الكتاب كله أبو بكر الخلال في كتاب السنة الذي جمع فيه نصوص أحمد وكلامه ، وعلى منواله جمع البيهقي في كتابه الذي سماه جامع النصوص من كلام الشافعي وهما كتابان جليلان لا يستغني عنهما عالم ، وخطبة كتاب أحمد بن حنبل : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل عليهم الصلاة والسلام بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله ( الموتى ) ويبصرون بنور الله تعالى أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن آثارهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ، ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون للكتاب ، مجمعون على مخالفة الكتاب ، يقولون على الله تعالى وفي الله تعالى وفي كتاب الله تعالى بغير علم ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون الجهال بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين ( ثم ) قال : باب بيان ما ضلت فيه الجهمية الزنادقة من متشابه القرآن ثم تكلم على قوله تعالى : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ) .

[ ص: 203 ] قال : قالت الزنادقة : فما بال جلودهم التي قد عصت قد احترقت وأبدلهم الله جلودا غيرها فلا نرى إلا أن الله عز وجل يعذب جلودا بلا ذنب حين يقول : " جلودا غيرها " فشكوا في القرآن وزعموا أنه متناقض فقلنا : إن قول الله عز وجل بدلناهم جلودا غيرها ليس يعني جلودا أخرى غير جلودهم وإنما يعني بتبديلها تجديدها لأن جلودهم إذا نضجت جددها الله . ثم تكلم على آيات من مشكل القرآن ، ثم قال : وإن مما أنكرت الجهمية الضلال أن الله عز وجل على العرش استوى وقد قال تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) وقد قال تعالى : ( ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ) ثم ساق أدلة القرآن ثم قال : ووجدنا كل شيء أسفل مذموما ، قال الله تعالى : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) وقال تعالى : ( وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ) ثم قال : ومعنى قوله تعالى : ( وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون ) يقول : هو إله من في السماوات ، وإله من في الأرض ، وهو على العرش ، وقد أحاط علمه بما دون العرش ، لا يخلو من علمه مكان ولا يكون علم الله تعالى في مكان دون مكان وذلك من قوله : ( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) ، قال الإمام أحمد : ومن الاعتبار في ذلك لو أن رجلا كان في يده قدح من قوارير وفيه ( شيء ) كان نظر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع ما خلق وقد علم كيف هو وما هو من غير أن يكون في شيء مما خلق ، قال : وخصلة أخرى لو أن رجلا بنى دارا بجميع مرافقها ثم أغلق بابها كان لا يخفى عليه كم بيت في داره وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار فالله سبحانه [ ص: 204 ] قد أحاط بجميع ما خلق ، وقد علم كيف هو ؟ وما هو ؟ وله المثل الأعلى وليس هو في شيء مما خلق .

قال الإمام أحمد : ومما تأولت الجهمية من قول الله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) فقالوا : إن الله معنا وفينا فقلنا لهم : لم قطعتم الخبر من أوله ؟ إن الله تعالى يقول : ( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ) الآية يعني : علمه فيهم أينما كانوا : ( ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ) ففتح الخبر بعلمه وختمه بعلمه ، قال الإمام أحمد : إن أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله سبحانه وتعالى حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان ، فقل له : أليس كان الله ولا شيء ؟ فيقول : نعم فقل له : فحين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل : إن زعم أن الله تعالى خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين وإبليس في نفس الله ، ( وإن قال : خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كفر أيضا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر ) ، وإن قال : خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع ، وهو قول أهل السنة ، قال أحمد : باب بيان ما ذكر في القرآن وهو معكم . وهذا على وجوه : قال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام : ( إنني معكما أسمع وأرى ) يقول : في الدفع عنكما ، وقال : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) يعني : في الدفع عنا ، وقال تعالى : ( والله مع الصابرين ) يعني في النصرة لهم على عدوهم ، وقوله تعالى : ( وأنتم الأعلون والله معكم ) يعني : في النصرة لكم [ ص: 205 ] على عدوكم ، وقال تعالى : ( وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ) ( يعني ) يقول : بعلمه فيهم ، وقوله تعالى : ( كلا إن معي ربي سيهدين ) يقول بالعون على فرعون ، فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى على الله سبحانه أنه مع خلقه قال : هو في كل شيء غير مماس لشيء ، ولا مباينا له ، فقلنا له : فإذا كان غير مباين للبشر أهو مماس لهم ؟ قال : لا ، قلنا : فكيف يكون في كل شيء غير مماس لشيء ولا مباينا لشيء ؟ فلم يحسن الجواب . فقال : بلا كيف ليخدع الجهال بهذه الكلمة ، ويموه عليهم . ثم قلنا له : إذا كان يوم القيامة ، أليس إنما تكون الجنة والنار والعرش والهوى ؟ فقال : بلى ، فقلنا : أين يكون ربنا ؟ قال : يكون في كل شيء كما كان حيث كانت الدنيا . . ) ، قلنا : ففي مذهبكم أن ( ما كان من الله تعالى في النار فهو في النار ، وما كان منه في الهوى فهو في الهوى ، فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله .

قال الإمام أحمد : وقلنا للجهمية حين زعموا أن الله تعالى في كل مكان . . قلنا : أخبرونا عن قول الله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل ) ، أكان في الجبل بزعمكم ؟ فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن تجلى لشيء هو فيه بل كان سبحانه على العرش فتجلى لشيء لم يكن فيه ، ورأى الجبل شيئا لم يكن رآه قط قبل ذلك . قال الإمام أحمد : وقلنا للجهمية : الله نور ؟ فقالوا : هو نور كله ، فقلنا لهم : قال الله عز وجل : وأشرقت الأرض بنور ربها ، فقد أخبر جل ثناؤه أن له نورا ، قلنا لهم : أخبرونا حين زعمتم أن الله سبحانه في كل مكان ، وهو نور ، فلم لا يضيء [ ص: 206 ] البيت المظلم بلا سراج ؟ وما بال السراج إذا دخل البيت المظلم يضيء ؟ فعند ذلك تبين للناس كذبهم على الله تعالى ، قال الإمام أحمد رحمه الله كان جهم وشيعته كذلك دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث ، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا وكان فيما بلغنا أن الجهم عدو الله كان من أهل خراسان وكان صاحب خصومات وشر وكلام ، وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي أناسا من الكفار يقال لهم : السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له : نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك وكان فيما كلموا جهما قالوا : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم قالوا له : فهل رأت عينك إلهك ؟ قال : لا . قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا . قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا . قالوا : فهل وجدت له حسا ؟ قال : لا . قالوا : فهل وجدت له مجسا ؟ قال : لا . قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ قال : فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم أنه استدرك حجة من جنس حجج زنادقة النصارى ( لعنهم الله ) وذلك أن زنادقة النصارى لعنهم الله تعالى [ ص: 207 ] يزعمون أن الروح الذي في عيسى بن مريم روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسانه فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء وهو روح غائب عن الأبصار ، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني : ألست تزعم أن فيك روحا ؟ قال : نعم . قال : فهل رأيت روحك ؟ قال : لا . قال فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا . قال : فهل وجدت له مجسا أو حسا ؟ قال : لا . قال : فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ، ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ( وهو الله في السماوات وفي الأرض ) ( لا تدركه الأبصار ) فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله ، وكذب أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزعم أن من وصف الله تعالى بشيء مما وصف به نفسه في كتاب أو حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كافرا أو كان من المشبهة . فأضل بشرا كثيرا وتبعه على قوله رجال من أصحاب عمرو بن عبيد وأصحاب فلان ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ما تفسيره ؟ يقولون : ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش لا [ ص: 208 ] يخلو منه مكان ولا هو في مكان دون مكان ولا يتكلم ولا يكلم ولا ينظر إليه أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ، ولا يعرف بصفة ، ولا يعقل ولا له غاية ولا منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله لا يوصف بوصفين مختلفين وليس بمعلوم ولا معقول وكل ما يخطر بقلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه فقلنا لهم فمن تعبدون ؟ قالوا : نعبد من يدبر أمر هذا الخلق . قلنا : فالذي يدبر أمر هذا الخلق مجهول لا يعرف بصفه ؟ قالوا : نعم . قلنا : قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون ، ثم قلنا لهم : هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى ؟ قالوا : لم يكلم ولا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح منفية عن الله سبحانه وتعالى ، فإذا سمع الجاهل قولهم ظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله سبحانه ولم يعلم أن كلامهم إنما يعود إلى ضلالة وكفر فلعنهم الله ، قال الخلال : كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله وكتبه عبد الله من خط أبيه . واحتج القاضي أبو يعلى في كتابه ( إبطال التأويل ) بما نقله منه عن أحمد ، وذكر ابن عقيل في كتابه بعض ما فيه عن أحمد ، ونقل [ ص: 209 ] منه أصحابه قديما وحديثا ، ونقل منه البيهقي وعزاه إلى أحمد وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية عن أحمد ولم يسمع من أحد من متقدمي أصحابه ولا متأخريهم طعن فيه ، فإن قيل : هذا الكتاب يرويه أبو بكر عبد العزيز غلام الخلال عن الخلال عن الخضر بن المثنى عن عبد الله بن أحمد عن أبيه وهؤلاء كلهم أئمة معروفون إلا الخضر بن المثنى فإنه مجهول . فكيف تثبتون هذا الكتاب عن أحمد برواية مجهولة ، فالجواب من وجوه :

أحدها : أن الخضر هذا قد عرفه الخلال وروى عنه كما روى كلام أبي عبد الله عن أصحابه وأصحاب أصحابه ولا يضر جهالة غيره له .

الثاني : أن الخلال قد قال كتبته من خط عبد الله بن أحمد وكتبه عبد الله من خط أبيه ، والظاهر أن الخلال إنما رواه عن الخضر لأنه أحب أن يكون متصل السند على طريق أهل النقل وضم ذلك إلى الوجادة ، والخضر كان صغيرا حين سمعه من عبد الله ولم يكن من المعمرين المشهورين بالعلم ولا هو من الشيوخ وقد روى الخلال عنه غير هذا في جامعه ؛ فقال في كتاب الأدب من الجامع : دفع إلي الخضر بن المثنى بخط عبد الله بن أحمد أجاز لي أن أروي عنه ، قال الخضر : حدثنا مهنا ، قال : سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يبزق عن يمينه في الصلاة ( وفي غير الصلاة ) فقال يكره أن يبزق الرجل عن يمينه ( في الصلاة وفي غير الصلاة ، فقلت له : لم يكره أن يبزق الرجل عن يمينه ) في غير الصلاة ؟ قال : أليس عن يمينه الملك ؟ فقلت : وعن [ ص: 210 ] يساره أيضا ملك ، فقال : الذي عن يمينه يكتب الحسنات ، والذي عن يساره يكتب السيئات .

( قال الخلال ) : وأخبرنا الخضر بن المثنى الكندي قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال : قال أبي لا بأس بأكل ذبيحة المرتد إذا كان ارتداده إلى يهودية أو نصرانية ولم يكن إلى مجوسية ، قلت : والمشهور في مذهبه خلاف هذه الرواية وأن ذبيحة المرتد حرام ، رواها عنه جمهور أصحابه ، ولم يذكر أكثر أصحابه غيرها .

ومما يدل على صحة هذا الكتاب ما ذكره القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى ، فقال : قرأت في كتاب أبي جعفر محمد بن أحمد بن صالح بن أحمد بن حنبل قال : قرأت على أبي صالح بن أحمد هذا الكتاب ، وقال : هذا كتاب عمله أبي في [ ص: 211 ] مجلسه ردا على من احتج بظاهر القرآن وترك ما فسره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يلزم اتباعه .

( وقال الخلال ) في كتاب السنة : أخبرني عبيد الله بن حنبل أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال : قال عمي : يعني : أحمد بن حنبل نحن نؤمن أن الله تعالى على العرش استوى كيف شاء وكما يشاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية ، وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب .

( قال الخلال ) : وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله سبحانه ينزل إلى سماء الدنيا ، وأن الله يرى ، وأن الله يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث ، فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ، ونصدق بها . . . ، ولا نرد منها شيئا ، ونعلم أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولا نرد على الله قوله ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ ص: 212 ] ( وقال حنبل ) في موضع آخر عن أحمد : ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه ، قد أجمل الله تبارك وتعالى الصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء ، وصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه . قال تعالى : ( وهو السميع البصير ) فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ، ولا يبلغ الواصفون صفته ، ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ، ونصفه بما وصف ( به ) نفسه ولا نتعدى ذلك ولا يبلغ صفته الواصفون . نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت ، وما وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضعه كنفه عليه ، فهذا كله يدل على أن الله سبحانه وتعالى يرى في الآخرة ، والتحديد في هذا كله بدعة والتسليم فيه لله بغير صفة ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير ، لم يزل متكلما عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال تعالى : ( ثم استوى على العرش ) كيف شاء ، المشيئة إليه والاستطاعة إليه ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو كما ( وصف نفسه ) سميع بصير بلا حد ولا تقدير لا نتعدى القرآن والحديث . . . تعالى عما يقول الجهمية ، والمشبهة ، قلت ( له ) : والمشبه ما تقول ؟ قال : من قال : بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله سبحانه بخلقه . وكلام أحمد في [ ص: 213 ] هذا كثير فإنه امتحن بالجهمية ، وجميع المتقدمين من أصحابه على مثل منهاجه في ذلك ، وإن كان بعض المتأخرين منهم دخل في نوع من البدعة التي أنكرها الإمام أحمد ولكن الرعيل الأول من أصحابه كلهم وجميع أئمة الحديث قولهم قوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية