الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا قتيبة بن سعيد ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ) قيل : اسمه ذكوان ( عن أبيه عن أبي هريرة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي أبصره ( توضأ من ثور أقط ) بفتح فكسر ، وفي القاموس مثلثة ، ويحرك وككتف ورجل وإبل ، شيء يتخذ من المخيض الغنمي ، والمعنى من أجل أكل قطعة عظيمة من الأقط ، ففي القاموس الثور القطعة العظيمة من الأقط ، ففيه تجريد أو بيان وتأكيد ( ثم رآه أكل من كتف شاة ، ثم صلى ولم يتوضأ ) أي الوضوء الشرعي وظاهر سياق هذا الحديث يدل على أن أبا هريرة أراد أن يبين أن الحكم السابق ، وهو الوضوء من ثور أقط ، قد نسخ بفعله صلى الله عليه وسلم بآخرة من أكله كتف الشاة ، وعدم توضئه كما يدل عليه كلمة ثم المقتضية للتراخي ، والله أعلم .

وذكر ميرك أن بعض أهل اللغة قال : الثور القطعة من الأقط ، فعلى هذا الإضافة في ثور أقط إما على سبيل التجريد ، أو البيان ، وقال بعضهم : الثور بالثاء المثلثة : القطعة ، وثور أقط : قطعة منه ، وهو لبن جامد مستحجر بالطبخ ، ومنه الحديث : توضؤوا مما مست النار ، ولو من ثور أقط ، يريد غسل اليدين والفم ، ومنهم من حمله على ظاهره ، وأوجب عليه وضوء الصلاة ، وفي صحيح مسلم أن أبا هريرة توضأ في المسجد ، وقال : إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها ، انتهى .

والجمع بينهما أنه توضأ احتياطا أو أراد غسل فمه ، وكلاهما لا يكره فعله في المسجد ، نعم خلاف الأولى لكنه يحتمل ارتكابه لضرورة ، وقال الحنفي : الظاهر أن التوضؤ أريد به في مقامي الإثبات والنفي معنى واحد لا أن يراد به أولا : معناه اللغوي ، وهو غسل بعض الأعضاء وتنظيفه ، وثانيا : معناه الشرعي حتى يندفع التدافع بينهما ، إذا تقرر ، فنقول : أن توضأه مما مسته النار أولا ، وعدمه ثانيا للإشارة إلى أنه مخير بين الوضوء وعدمه ، فيكون هذا مثل حديث جابر بن [ ص: 272 ] سمرة : " أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ " ، وهذا التوجيه صحيح ، سواء أريد بالتوضؤ هنا معناه اللغوي أو الشرعي ، ويمكن أن يقال : إذا أريد به المعنى الشرعي ، أن وضوأه أولا كان مبنيا على الأمر ، ثم صار منسوخا ، فلم يتوضأ ، وهذا مثل ما قاله محي السنة أن حديث توضؤوا مما مسته النار منسوخ ، بحديث ابن عباس ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ، ولم يتوضأ ، انتهى .

ولا يخفى أن حديث المتن يحتمل أن يراد بالوضوء في موضعيه ، معناه اللغوي أو الشرعي ، ويتصور أربع صور ، ويحتمل أن الوضوء الأول كان بعد الأكل أو قبله ، ولهذا قال شارح : قيل : المراد غسل الفم والكفين واختلف العلماء في استحباب غسل اليدين قبل الطعام وبعده ، والأظهر استحبابه أولا إلا أن يتيقن نظافة اليد من النجاسة والوسخ ، واستحبابه بعد الفراغ ، إلا أن لا يبقى على اليد أثر الطعام ، بأن كان يابسا أو لم يمسه بها ، وقال مالك : لا يستحب غسل اليد للطعام إلا أن يكون على اليد قذرا ، ويبقى عليها بعد الفراغ رائحة ، وقد اختلف العلماء في الوضوء مما مسته النار ، فذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أنه لا ينقض الوضوء بأكل ما مسته النار ، منهم الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مسعود ، وابن عمر وابن عباس ، وأبو الدرداء وأنس وجابر ، وزيد بن ثابت وأبو موسى ، وأبو هريرة وأبي بن كعب ، وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم ، وذهب طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي بأكله ، واحتج الجمهور بالأحاديث الواردة بترك الوضوء ، مما مسته النار ، وأجابوا عن حديث الوضوء مما مسته النار بجوابين ، أحدهما : أنه منسوخ بحديث جابر ، قال : كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسته النار ، وهو حديث صحيح ، رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ، من أهل السنن بأسانيدهم الصحيحة ، والجواب الثاني : أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين ، ثم إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول ، ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار ، ثم الظاهر من إيراد هذا الحديث في هذا الباب أن المصنف أراد أن يبين أنه صلى الله عليه وسلم أكل ثور الأقط ، وكتف الشاة بطريق الائتدام ، وليس في لفظ الخبر ما يدل عليه صريحا ، اللهم إلا أن يقال أنهما من جملة الإدام عادة ، فاعتبر العرف وحمل عليه الحديث فذكر في هذا الباب ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية