الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا هناد ) وفي نسخة ابن السري وهو بفتح السين ، وكسر الراء ، وتشديد الياء ( حدثنا وكيع عن شعبة عن أبي التياح ) بالتشديد قيل ، واسمه يزيد بن حميد ( عن أنس بن مالك قال : أن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أن هي المخففة من الثقيلة أي : أنه كان ولذا دخل اللام في قوله ( ليخالطنا ) وفي نسخة ليخاطبنا ( حتى يقول لأخ لي صغير يا أبا عمير ) بالتصغير ( ما فعل ) بصيغة الفاعل ، ويحتمل المفعول ( النغير ) بضم نون ففتح غين معجمة، تصغير النغر جمع نغرة كهمزة وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار ، وقيل هو فرخ العصفور ، وقيل هو العصفور صغير المنقار أحمر الرأس ، وقيل أهل المدينة يسمونه البلبل، في جامع الأصول أبو عمير اسمه كبشة أبو أنس لأمه وأبو طلحة بن زيد بن سهل الأنصاري . انتهى وقد مات نغيره الذي كان يلعب به ، فمازحه - صلى الله عليه وسلم - ممازحة .

فيه ممازحة الصغير لتسليته ، وتطييب خاطره ، وفيه إشارة خفيفة إلى أنه لا ينبغي التعلق بالفاني كما حكي أن أحدا مات معشوقه وكان يبكي فقال له عارف : لم لم تحب الحي الذي لا يموت ، ولطفه لا يفوت ؟ .

هذا قال النووي : حتى غاية لقوله يخالطنا ، وضمير الجمع لأنس ، وأهل بيته أي : انتهى مخالطته بأهلنا كلهم حتى الصبي ، وحتى المداعبة معه ، وحتى السؤال عن فعل نغيره وقال الراغب : الفعل التأثير من جهة المؤثر والعمل كل فعل يصدر من الحيوان بقصد وهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد ، وقد ينسب إلى الجمادات ، والمعنى ما حاله ، وشأنه ( قال أبو عيسى : وفقه هذا الحديث ) أي : المسائل الفقهية المستنبطة من هذا الحديث ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمزح وفيه ) أي : في الحديث ( أنه كنى غلاما صغيرا ) بتشديد النون ، وفي نسخة بالتخفيف ، فعلى الأول مفعوله الثاني محذوف يمكن أن يقدر بالباء ، ودونها ، وعلى الثاني ، فلا بد من تقدير الباء قال الجوهري : الكنية واحدة الكنى واكتنى فلان هكذا وفلان يكنى بأبي عبيد الله وكنيته أبا زيد وبأبي زيد نكنيه ( فقال له : يا أبا عمير ) .

وهو يحتمل أن يكون ابتداء تكنية على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون مكنيا من أول الأمر فكناه بكنية على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون مكنيا من أول فكناه بكنية ، وعدل عن اسمه إلى كنيته مراعاة للسجع في الكلام .

والنهي عنه محمول على ما فيه تكلف ، وتكليف للطبع . قال البغوي : فيه جواز السجع في الكلام : وأغرب الحنفي حيث قال : وفيه أنه لا بأس بالسجع حين المزاح ، وكأنه غفل عن كلماته المسجعة - صلى الله عليه وسلم - منها .

اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع ، ونفس لا تشبع ، ودعوة لا تسمع ، ومن هؤلاء الأربع .

ثم خلاصة كلام المصنف في فقه الحديث هنا أن مثل هذا التكني لا يدخل في باب الكذب لأن القصد من التكنية التعظيم ، والتفاؤل لا حقيقة اللفظ من إثبات أبوة ، وبنوة قال ابن حجر : قيل عمير مصغر العمر للإشارة على أنه يعيش قليلا ، وبه يندفع الأخذ منه أنه يجوز تكنية الصغير بأبي فلان ، وإن لم يتصور منه الإيلاد ووجه اندفاعه أنه من باب أبي الفضل كما تقرر من أن عميرا مصغر عمر لا أنه اسم [ ص: 31 ] شخص آخر انتهى . ملخصا وفيه نظر من أين له الجزم بأن عميرا تصغير عمر ، وليس بعلم مع أن المشهور أنه علم متعارف ، وحينئذ صح الأخذ به ، ولم يندفع بما ذكر ، فتأمله تم كلامه .

وفيه على أسلوب آداب البحث أن صاحب القيل مانع للعلمية جازما ، ولا يحتاج إلى أن يكون جازما ، وسند منعه واضح جدا لوضوح فقد الأبوة والبنوة ، والأصل في التكنية هذا فعلى مدعي الإثبات إثباته ، فلا يكفي في المقام قوله أنه علم متعارف كثيرا إذ الخصم لا يمنع مثله في غير الصغير .

فالصواب في الجواب ما هو صريح في حديث صحيح أنه كان سمي بهذا الاسم إذ روى الشيخان عن أنس أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير ، وكان له نغير يلعب به فمات ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه حزينا ، فقال : ما شأنه ؟ قالوا : مات نغيره ، فقال : يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ ، وفي رواية لمسلم ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه ورواه ، فقال أبا عمير : ما فعل النغير هذا ولو سلم أنه كان من باب أبي الفضل للتفاؤل فالتفاؤل بقلة العيش من قلة العقل .

بقي أنه من باب الإخبار ، فيقال ليس من دأبه - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه الحسنة أن يقول لولد صغير عبارة مشعرة بأن عمره قصير، نعم لو لم يصح ثبوت علمية له لكان وجه وجيه أن يقال إنما قال له : يا أبا عمير تصغير للعمر باعتبار عمر طيره أي : أي يا صاحب نغير عمره قصير ، فيكون فيه إشارة إلى أن أجله فرغ كما هو المتعارف في التسلية عند التعزية والله سبحانه أعلم .

( وفيه ) أي وفي الحديث ( أنه لا بأس أن يعطي الصبي ) وفي نسخة الصغير : ( الطير ) وفي نسخة الطائر ( يلعب ) أي : الصبي . ( به ) أي : بالطير ، ومحله إذا علم أنه لا يعذبه قالوا : وفيه جواز استمالة الصغير ، وإدخال السرور عليه ، والتقييد بالصغير يفيد أن الكبير ممنوع من اللعب بالطير لما ورد من اتبع الصيد غفل فيه . قيل وفيه جواز صيد المدينة على ما هو مذهب الجمهور خلافا للشافعية لكن لهم أن يقولوا أنه كان مما صيد خارجها ، وقد يدفع بأنه خلاف الأصل ، فيحتاج إلى إثبات ثبت [ ص: 32 ] ( وإنما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : للغلام . ( يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ لأنه كان له نغير فيلعب به ) وفي نسخة يلعب به .

( فمات فحزن الغلام عليه ، فمازحه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا أبا عمير ما فعل النغير ؟ ) .

قالوا فيه أنه يجوز للإنسان أن يسأل عن الشيء ، وهو يعلمه ; فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد علم بموت النغير . وفيه إباحة تصغير الأسماء ، وإباحة الدعابة ما لم يكن إثما .

وفيه كمال خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن رعاية الضعفاء من مكارم أخلاق الأصفياء .

قال ميرك : وفيه أنه يجوز أن يدخل الرجل في بيت فيه امرأة أجنبية إذا أمن على نفسه الفتنة قلت ، وهذا استدلال غريب ، واستنباط عجيب إذ ليس في الحديث ذكر المرأة مطلقا ، وعلى تقدير وجودها من أين له ثبوت الخلوة معها مع أن راوي الحديث ابنها ، وهو خادم له - صلى الله عليه وسلم - حاضر معه مع أنه على فرض التسليم فعله هذا مع نهيه عنه موجب للقول بالاختصاص إذ حرمة الخلوة مع الأجنبية إجماعية لا أعرف فيها خلافا لا سلفا ، ولا خلفا ولو أمن على نفسه الفتنة ، وإنما تعلق بها بعض أهل البدعة ، والملاحدة والله ولي دينه .

وقد قال بعض العارفين : لو كان الرجل هو الحسن البصري ، والمرأة رابعة العدوية لما حل الاختلاء بينهما .

وسببه أن الأحكام الشرعية وردت على إطلاقها لو كانت العلة المبنية على الغلبة غير موجودة فيها ألا ترى أنه يجب استبراء الجارية ، ولو كانت بكرا ونحوها، ثم رأيت في شرح ابن حجر أبحاثا لطيفة ونقولا شريفة أحببت أن أذكرها ، وأحقق عجرها وبجرها منها قيل يؤخذ منه أن صيد المدينة مباح بخلاف مكة ، وهو غلط وأي دلالة على ذلك ; فإن ذلك الطير من أين في الحديث أنه اصطيد في الحرم ، وليس احتمال اصطياده فيه أولى من احتمال اصطياده خارجه . قلت : هذا خارج عن قواعد آداب البحث فإن القائل إنما استدل بظاهر وجود الصيد في المدينة أنه مما اصطيد فيها لأنه ممنوع الأصل ، وأما احتمال أنه صيد خارجها فيصلح في الجملة أن يكون جوابا فأي غلط في القول مع أن مذهب القائل هو أن الصيد إذا أخذ خارج الحرم ، وأدخل فيه صار من صيد الحرم حتى لو ذبح فيه لكان ميتة هذا ، والقول نسب إلى محيي السنة في شرح السنة حيث قال : فيه فوائد منها : أن صيد المدينة مباح بخلاف صيد مكة ، فهو إما محمول على كمال إنصافه رضي الله عنه أو على أنه هو المذهب الصحيح عنده فإن النووي ليس له قول مردود كذا سمعت بعض مشايخي من الشافعية ثم قال في شرح السنة أنه قد نقل عن الشيخ نجم الدين الكبري غير ذلك من الفوائد وهي أنه يجوز للرجل أن يدخل بيتا فيه امرأة أجنبية إذا أمن الرجل على نفسه الفتنة انتهى .

فهو نقل بصيغة المجهول مع ما يراد عليه ما قدمناه من مقتضى العقول ، والنقول ، ومنها قوله : وفيه جواز دخول بيت به امرأة أجنبية إذا كان هنالك مانع خلوة من نحو امرأة أخرى معها ، وهما اثنتان يحتشمهما أو إحداهما ، وإلا حرمت خلوة الرجل بهما أو محرم وإن كان مراهقا على بحث منه انتهى . وفيه ما سبق من أن الحديث لا دلالة فيه على ما ذكرنا لا نفيا ، ولا إثباتا نعم الظاهر أن أم أنس تكون في البيت لكن لا يلزم دخوله - صلى الله [ ص: 33 ] عليه وسلم - عندها من غير حضور أحد معه من زوجها أو غيره من محارمها مع أنه صريح أن أنسا معها وهو إما بالغ أو مراهق .

وما أبعد قول فقيه جوز حضور امرأة أخرى يحتشمها وتوقف في جواز مراهق ثم رجع وقال : وفي أخذ هذا من الحديث نظر ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان بالنسبة إلى النساء كالمحرم ; فكان يجوز له الخلوة بهن قلت هذا النقش متوقف على ثبوت العرش ، ومع هذا يرده تأويل العلماء خلوته مع بعضهن كأم سليم بأنه كان بينه وبينها حرمة رضاع .

ثم قال بل قال أئمتنا : أن سفيان ، وغيره كانوا يزورون رابعة ، ويجلسون إليها .

قلت سبحان الله ، فهل فيه إشعار بأن واحدا منهم كان يختلي معها بل المشهور أنها كانت تتجنب إلا عن إبراهيم بن أدهم قائلة بأنه تارك الدنيا ، وأما الخلوة فحاشا الأولياء مع كمال ورعهم ، واحتياطهم في الدين أن يقع من أحدهم هذا الأمر المكروه المنكر شرعا ، وعرفا مع أنه لا ضرورة إليه ، ولا باعثا للحال عليه .

ثم أغرب في الكلام حيث بنى على النظام الغير التام فقال : قالوا أي : بعض الفقهاء ، فلو وجدنا رجلا مثل سفيان ، وامرأة مثل رابعة أبحنا له الخلوة بها للأمن من المفسدة ، والفتنة حينئذ انتهى . وقد تقدم وجه بطلانه .

ثم زاد في الغرابة بقوله ، ويوجه بأنه لا يشترط تحقق الأمن بل يكفي مظنته ألا ترى أنهم جوزوا خلوة رجل بامرأتين دون عكسه مع أنه قد يختلي بهما ، ويقع منه الفاحشة فيهما أو في إحداهما لكنه بعيد إذ المرأة تستحي من مثلها وبعيد وقوع الفاحشة منها بحضرتها بخلاف الرجل انتهى .

وفيه أنه أيضا قد يختليان بها ، ويقع منهما أو من أحدهما الفاحشة فيها بحضوره ، فالبعد مشترك في الصورتين في الاحتمال ، فلا يصح الاستدلال مع وجود المظنة ، بل ولا يصح مع تحقيق الأمن كما تقدم . والله أعلم .

ثم نقل عن بعض الشراح مما فيه غاية الركاكة اللفظية ، والغرابة المعنوية مما أوجب إعراضنا عنها وتخلية شرح الشمائل منها ثم قال : وما قيل الأظهر من أن المزاح مباح فيها إلا لدليل يمنع من ذلك ، ولا دليل هنا يمنع منه ، فتعين الندب كما هو مقتضى كلام الفقهاء ، والأصوليين .

قلت : وفيه أن الدليل المانع عن السنية نهيه بطريق العموم عن المزاح ، والقاعدة الأصولية أنه إذا نهى - صلى الله عليه وسلم - عن شيء ثم فعله يكون فعلا لبيان الجواز ، وإن نهيه نهي تنزيه لا تحريم كما في الشرب قائما ، ومن فم السقاء ، وكالبول قائما ، وأمثال ذلك ، بل ولولا أنه ثبت المزاح من أصحابه معه - صلى الله عليه وسلم - فقرره ، ولم يمنعه عنه لحمل مزاحه على اختصاصه على ما سيأتي تحقيقه في الحديث الذي يليه هذا .

ومما يؤيد ما قررنا ما نقله عن العلماء بقوله : وقد ألقى الله سبحانه عليه المهابة ، ولم يؤثر فيه مزاحه ولا مداعبته .

فقد قام رجل من بين يديه ، فأخذته رعدة شديدة ، ومهابة فقال : هون عليك ; فإني لست بملك ، ولا جبار إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة ، فنطق الرجل بحاجته ، فقام - صلى الله عليه وسلم - فقال : أيها الناس إني أوحي إلي أن تواضعوا ألا فتواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ، ولا يفخر أحد على أحد ، وكونوا عباد الله إخوانا .

وروى مسلم عن عمرو بن العاص صحبت رسول الله [ ص: 34 ] - صلى الله عليه وسلم - وما ملأت عيني قط حياء منه ، وتعظيما له ، ولو قيل لي صفه لما قدرت .

فإذا كان هذا حاله ، وهو من أجلاء أصحابه فما ظنك بغيره ، ومن ثمة لولا مزيد تألفه ومباسطته لهم لما قدر أحد منهم أن يجتمع به هيبة وفرقا منه لا سيما عقب ما كان يتجلى عليه من مواهب القرب ، وعوائد الفضل ، لكنه كان لا يخرج إليهم بعد ركعتي الفجر إلا بعد الكلام مع عائشة أو الاضطجاع بالأرض إذ لو خرج إليهم على حالته التي تجلى بها من القرب في مناجاته ، وسماع كلام ربه ، وغير ذلك مما يكل الإنسان عن وصف بعضه لما استطاع بشر أن يلقاه ، فكان يتحدث معها أو يضطجع بالأرض ليستأنس بجنسهم أو بجنس أصل خلقهم ، وهي الأرض ثم يخرج إليهم بحالة يقدرون على مشاهدتها رفقا بهم ، ورحمة لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية