الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن ، أخبرنا عفان ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن أنس ) أي ابن مالك كما في نسخة ( قال لم يكن شخص أحب ) أي أكثر محبوبية ( إليهم ) أي إلى الصحابة ( من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أي أنس ( وكانوا ) أي : والحال أنهم مع تلك الأحبية المقتضية لمزيد الإجلال والتعظيم بالمزية ، ومنه القيام على العادة العرفية ، كانوا ( إذا رأوه ) أي مقبلا ( لم يقوموا ) أي له ( لما يعلمون ) ما موصولة ، أو موصوفة وأبعد الحنفي في تجويزه [ ص: 169 ] المصدرية ، أي : لأجل الأمر المعلوم المستقر عندهم ( من كراهيته ) بيان لما ، وفي نسخة من كراهته وهو مصدر كره كعلم ( لذلك ) أي للقيام تواضعا لهم ، ورحمة عليهم فاختاروا إرادته على إرادتهم ؛ لعلمهم بكمال تواضعه وحسن خلقه ، قيل في قوله ( أحب ) هذا مشكل لأن الأحبية لا تقتضي القيام لأن الولد أحب إلى الوالد ، ولا يقوم له ، ورد بأن هذا ليس على إطلاقه ؛ فإن الولد حيث كان له فضيلة تقتضي القيام له سن للأب القيام له كما صرح به كلام أئمة هذا القائل فبطل إشكاله المبني على وهم فيه ؛ لأن الأحبية من حيث الدين تقتضي القيام انتهى ؟ والتحقيق أن إشكاله وارد ، والجواب ما ذكره بطريق الرد لا أن الإشكال مندفع من أصله ، وحاصله أن المحبة إذا كانت ناشئة عن الفضيلة تقتضي القيام على وجه الكرامة لا المحبة الطبيعية على مقتضى السجية ، فإن الإنسان قد يحب فرسه أكثر من صاحبه ، والله أعلم ، ثم الظاهر من إيراد أنس هذا الحديث إرادة أن القيام المتعارف غير معروف في أصل السنة وفعل الصحابة ، وإن استحبه بعض المتأخرين ، وليس معناه أنهم كانوا يقومون بعضهم لبعض ولا يقومون له - صلى الله عليه وسلم - كما يتوهم فإنه عليه السلام قال : لا تقوموا كما يقوم الأعاجم بعضهم لبعض ، وأغرب ابن حجر في قوله ولا يعارض ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار قوموا لسيدكم أي سعد بن معاذ سيد الأوس لما جاء على حمار لإصابة أكحله بسهم في وقعة الخندق كان منه موته بعد ؛ لأن هذا حق للغير فأعطاه - صلى الله عليه وسلم - له وأمرهم بفعله بخلاف قيامهم له - صلى الله عليه وسلم - فإنه حق لنفسه وتركه تواضعا انتهى ، ووجه غرابته أن الحديث بعينه يرد عليه ، ؛ لأنه يدل على أن القيام لم يكن متعارفا فيما بينهم وعلى التنزل ، فلو أراد قيام التعظيم لما خص قومه به ، بل كان يعمهم وغيرهم ، فالصواب أن المراد بالقيام الذي أمرهم به هو إعانته حتى ينزل من حماره لكونه مجروحا مريضا ، ولا يدفعه ما قال بعضهم : لو أراد هذا المعنى لعدى بـ ( إلى ) لأن اللام تأتي كثيرا للعلة ، فالتقدير : قوموا لأجل معاونة سيدكم ، مع أنه في كثير من الروايات ( قوموا إلى سيدكم ) حتى قال بعضهم : لو أريد به التوقير لقال : قوموا لسيدكم ، وأما قول ابن حجر : ويؤيد مذهبنا من ندب القيام لكل قادم به فضيلة ، نحو نسب ، أو علم ، أو صلاح ، أو صداقة حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قام لعكرمة بن أبي جهل لما قدم عليه ولعدي بن حاتم كلما دخل عليه ، وضعفهما لا يمنع الاستدلال بهما هنا خلافا لمن وهم فيه ؛ لأن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال اتفاقا بل إجماعا كما قاله النووي فمدفوع ؛ لأن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال المعروفة في الكتاب والسنة لكن لا يستدل به على إثبات الخصلة المستحبة على أن القادم له حكم آخر فهو خارج عما نحن فيه ، مع أن المروي بطريق الضعف عن عدي ( ما دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قام لي أو تحرك ) والمشهور إلا أوسع لي ، ولو ثبت فالوجه فيه : أن يحمل على الترخيص حيث يقتضيه الحال ، وقد كان عدي سيد بني طي على حسبه فرأى تأليفه بذلك . على الإسلام لما عرف من جانبه ميلا إليه على [ ص: 170 ] حسب ما يقتضيه الرياسة ولا يبعد على أن يحمل على قيام القدوم ، وقد قام لجعفر بن أبي طالب أيضا لما قدم من الحبشة ، وإنما الكلام في القيام المتعارف فيما بين الأنام ، مع أن القيام إنما استحبه العلماء الكرام لمجرد الإكرام لا للرياء والإعظام ، فإنه مكروه ، لكنه صار من البلوى العامة ، بحيث لو تركه عالم لظالم اختل عليه النظام ، ثم قال : ويفرق بينه وبين حرمة نحو الركوع للغير إعظاما بأن صورة نحو الركوع لم تعهد إلا عبادة بخلاف صورة القيام انتهى ، وفيه أن القيام بطريق التمثل كما هو شأن أكابر الزمان حرام لقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحب أن يتمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن معاوية ، قال النووي : هذا الحديث أقوى ما يحتج به لكراهة قيام بعض المسلمين لبعضهم ، لكن المختار عند أكثر العلماء جواز ذلك من وجهين : أحدهما : أنه خاف عليهم الفتنة إذا أفرطوا في تعظيمه فكره قيامهم له لهذا المعنى كما قال : ( لا تطروني ) ، ولم يكره قيام بعضهم لبعض ، أقول : هذا التقرير يحتاج إلى نقل فيه تحرير ولا يتم بقوله ، فإنه قد قام هو لبعضهم أيضا مثل عكرمة وعدي بن حاتم وزيد بن ثابت وجعفر بن أبي طالب ، وقام المغيرة بحضرته فلم ينكر عليه بل أقره وأمر به ، قلت : قد عرفت أن هذا القيام كان للقادم وليس فيه الكلام ، قال : وثانيهما أنه كان بينه وبين أصحابه من الأنس وكمال الود والصفاء لا يحتمل زيادة الإكرام بالقيام ، فلم يكن في القيام مقصود ، وإن فرض الإنسان صار بهذه الحالة لم يحتج إلى القيام ، أقول : من اتصف بهذه الحالة لم يحتج إلى القيام ، لكن ينبغي له القيام لمزيد الإكرام ، ومن أراد القيام ولم يتصف بحال الكرام فينبغي أن يكره له القيام .

ثم الأصحاب أيضا - رضي الله عنهم - فيما بينهم كان لهم غاية الصفا ونهاية الضياء فيدل على أنهم مع ما كانوا يقوم بعضهم لبعض قيام المتعارف ، وقال ميرك : لكن يشكل هذا الحديث بما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا فإذا قام قمنا قياما حتى نراه قد دخل ، وأجاب بعضهم عن هذا الإشكال بأن قيامهم كان لضرورة الفراغ ليتوجهوا إلى أشغالهم وليس للتعظيم ، ولأن بيته كان بابه في المسجد ، والمسجد لم يكن واسعا إذ ذاك ، فلا يتأتى أن يستووا قياما إلا وهو قد دخل ، قال الحافظ العسقلاني : والذي يظهر لي في الجواب أن يقال : لعل سبب تأخيرهم حتى دخل أن يحتمل عندهم أمر يحدث له حتى لا يحتاج إذا تفرقوا أن يتكلف استدعاءهم ، ثم راجعت سنن أبي داود فوجدت في آخر الحديث ما يؤيده وهو قصة الأعرابي الذي جبذ رداءه - صلى الله عليه وسلم - فدعا رجلا فأمره أن يحمل له على بعيره تمرا وشعيرا ، وفي آخره ثم التفت إلينا فقال : انصرفوا رحمكم الله انتهى ، وقال الإمام الغزالي : القيام مكروه على سبيل الإعظام لا على سبيل الإكرام ، وقال الإمام النووي : هذا القيام للقادم من أهل الفضل من علم وإصلاح ، أو شرف مستحب ، وقد جاءت فيه أحاديث ، ولم يثبت في النهي عنه شيء صريح وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء وأجبت فيه عما توهم النهي عنه ، وقال القاضي عياض : ليس هذا من القيام المنهي عنه إنما ذاك [ ص: 171 ] فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمكثون قياما طول جلوسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية