الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 444 ] الفصل التاسع : في حكم زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - ، وفضيلة من زاره ، وسلم عليه ، وكيف يسلم ، ويدعو

          وزيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - سنة من سنن المسلمين مجمع عليها ، وفضيلة مرغب فيها .

          [ حدثنا القاضي أبو علي ، قال : حدثنا أبو الفضل بن خيرون ، قال : حدثنا الحسن بن جعفر ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني ، قال : حدثنا القاضي المحاملي ، قالا : حدثنا محمد بن عبد الرزاق ، قال : حدثنا موسى بن هلال ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع ] ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، قال : قال : النبي - صلى الله عليه وسلم - من زار قبري ، وجبت له شفاعتي .

          وعن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من زارني في المدينة محتسبا كان في جواري ، وكنت له شفيعا يوم القيامة

          وفي حديث آخر : من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي .

          وكره مالك أن يقال : زرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

          وقد اختلف في معنى ذلك ، فقيل : كراهية الاسم ، لما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : لعن الله زوارات القبور .

          وهذا يرده قوله : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها .

          وقوله : من زار قبري ، فقد أطلق اسم الزيارة ، وقيل لأن [ ص: 445 ] ذلك لما قيل : إن الزائر أفضل من المزور . وهذا أيضا ليس بشيء ، إذ ليس كل زائر بهذه الصفة ، وليس هذا عموما .

          وقد ورد في حديث أهل الجنة : زيارتهم لربهم ، ولم يمنع هذا اللفظ في حقه - تعالى - .

          وقال أبو عمران - رحمه الله - : إنما كره مالك أن يقال : طواف الزيارة ، وزرنا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لاستعمال الناس ذلك بينهم بعضهم لبعض ، وكره تسوية النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس بهذا اللفظ ، وأحب أن يخص بأن يقال : سلمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - .

          وأيضا فإن الزيارة مباحة بين الناس ، وواجب شد المطي إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - ، يريد بالوجوب هنا وجوب ندب ، وترغيب ، وتأكيد ، لا وجوب فرض .

          والأولى عندي أن منعه ، وكراهة مالك له لإضافته إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه لو قال : زرت النبي لم يكرهه ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم لا تجعل قبري ، وثنا يعبد بعدي ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

          فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر ، والتشبه بفعل أولئك ، قطعا للذريعة ، وحسما للباب ، والله أعلم .

          قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة ، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتبرك برؤية روضته ، ومنبره ، وقبره ، ومجلسه ، وملامس يديه ، ومواطئ قدميه ، والعمود الذي كان يستند إليه ، وينزل جبريل بالوحي فيه عليه ، وبمن عمره ، وقصده من الصحابة ، وأئمة المسلمين ، والاعتبار بذلك كله .

          وقال ابن أبي فديك : سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فتلا هذه الآية : إن الله وملائكته يصلون على النبي [ الأحزاب : 56 ] ثم قال : صلى الله عليك يا محمد من يقولها سبعين مرة ناداه ملك : صلى الله عليك يا فلان ولم تسقط له حاجة .

          وعن يزيد بن أبي سعيد المهري : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلما ودعته قال : لي إليك حاجة ، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأقره مني السلام .

          وقال غيره : وكان يبرد إليه البريد من الشام .

          قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة ، فسلم على [ ص: 446 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم انصرف .

          وقال مالك في رواية ابن وهب : إذا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودعا ، يقف ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة ، ويدنو ، ويسلم ، ولا يمس القبر بيده .

          وقال في المبسوط : لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ، ولكن يسلم ، ويمضي .

          قال ابن أبي مليكة : من أحب أن يقوم ، وجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فليجعل القنديل الذي عند القبر على رأسه .

          وقال نافع : كان ابن عمر يسلم على القبر ، رأيته مائة مرة وأكثر يجيء إلى القبر فيقول : السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي ، ثم ينصرف .

          ورئي ابن عمر ، واضعا يده على مقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المنبر ، ثم وضعها على وجهه .

          وعن ابن قسيط ، والعتبي : كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خلا المسجد حسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ، ثم استقبلوا القبلة يدعون .

          وفي الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي أنه كان يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي على النبي ، وعلى أبي بكر ، وعمر .

          وعن ابن القاسم ، والقعنبي : ويدعو لأبي بكر ، وعمر .

          قال مالك في رواية ابن وهب : يقول المسلم : السلام عليك أيها النبي ، ورحمة الله ، وبركاته .

          قال في المبسوط : ويسلم على أبي بكر ، وعمر .

          قال القاضي أبو الوليد الباجي : وعندي أنه يدعو للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الصلاة ، ولأبي بكر ، وعمر ، كما في حديث ابن عمر من الخلاف .

          وقال ابن حبيب : ويقول إذا دخل مسجد الرسول : بسم الله ، وسلام على رسول الله ، السلام علينا من ربنا ، وصلى الله ، وملائكته على محمد . اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، وجنتك ، [ ص: 447 ] واحفظني من الشيطان الرجيم ، ثم اقصد إلى الروضة ، وهي ما بين القبر ، والمنبر فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر تحمد الله فيهما ، وتسأله تمام ما خرجت إليه ، والعون عليه .

          وإن كانت ركعتاك في غير الروضة أجزأتاك ، وفي الروضة أفضل .

          وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : ما بين منبري ، وقبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنة .

          ثم تقف متواضعا متوقرا ، فتصلي عليه ، وتثني بما يحضرك ، وتسلم على أبي بكر ، وعمر ، وتدعو لهما .

          وأكثر من الصلاة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل ، والنهار ، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء ، وقبور الشهداء .

          قال مالك في كتاب محمد : ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل ، وخرج يعني في المدينة ، وفيما بين ذلك .

          قال محمد : وإذا خرج جعل آخر عهده الوقوف بالقبر ، وكذلك من خرج مسافرا .

          وروى ابن وهب عن فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا دخلت المسجد فصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك . وإذا خرجت فصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقل : اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك .

          وفي رواية أخرى : فليسلم مكان فليصل فيه ، ويقول إذا خرج : اللهم إني أسألك من فضلك .

          وفي أخرى : اللهم احفظني من الشيطان الرجيم .

          وعن محمد بن سيرين : كان الناس يقولون إذا دخلوا المسجد : صلى الله ، وملائكته على محمد . السلام عليك أيها النبي ، ورحمة الله ، باسم الله دخلنا ، وباسم الله خرجنا ، وعلى الله توكلنا . وكانوا يقولون إذا خرجوا مثل ذلك .

          وعن فاطمة أيضا : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد قال : صلى الله على محمد وسلم . ثم ذكر مثل حديث فاطمة قبل هذا .

          وفي رواية : حمد الله ، وسمى ، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر مثله .

          وفي رواية : باسم الله ، والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

          وعن غيرها : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد قال : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، ويسر لي أبواب [ ص: 448 ] رزقك .

          وعن أبي هريرة : إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليقل : اللهم افتح لي .

          وقال مالك في المبسوط : وليس يلزم من دخل المسجد ، وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر ، وإنما ذلك للغرباء .

          وقال فيه أيضا : لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيصلي عليه ، ويدعو له ، ولأبي بكر ، وعمر .

          فقيل له : فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ، ولا يريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة ، والمرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ، ويدعون ساعة ! .

          فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة ، وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده .

          قال ابن القاسم : ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر فسلموا ، قال : وذلك رأي .

          قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة والغرباء ، لأن الغرباء قصدوا لذلك ، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم .

          وقال - صلى الله عليه وسلم - : اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

          وقال : لا تجعلوا قبري عيدا .

          ومن كتاب أحمد بن سعيد الهندي فيمن وقف بالقبر : لا يلصق به ، ولا يمسه ، ولا يقف عنده طويلا .

          وفي العتبية : يبدأ بالركوع قبل السلام في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأحب مواضع التنفل فيه مصلى النبي حيث العمود المخلق .

          وأما في الفريضة فالتقدم إلى الصفوف ، والتنفل فيه للغرباء أحب إلي من التنفل في البيوت .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية