الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الثامن : أفعاله الدنيوية - صلى الله عليه وسلم -

          وأما أفعاله - صلى الله عليه وسلم - الدنيوية فحكمه فيها من توقي المعاصي والمكروهات ما قدمناه ، ومن جواز السهو والغلط في بعضها ما ذكرناه .

          وكله غير قادح في النبوة ، بل إن هذا فيها على الندور ، إذ عامة أفعاله على السداد والصواب ، بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات ، والقرب على ما بينا إذ كان - صلى الله عليه وسلم - لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورته ، وما يقيم رمق جسمه ، وفيه مصلحة ذاته التي بها يعبد ربه ، ويقيم شريعته ، ويسوس أمته ، وما كان فيما بينه ، وبين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه ، أو بر يوسعه ، أو كلام حسن يقوله أو يسمعه ، أو تألف شارد ، أو قهر معاند ، أو مداراة حاسد ، وكل [ ص: 529 ] هذا لاحق بصالح أعماله ، منتظم في زاكي وظائف عباداته ، وقد كان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الأحوال ، ويعد للأمور أشباهها ، فيركب في تصرفه لما قرب الحمار ، وفي أسفاره الراحلة ، ويركب البغلة في معارك الحرب دليلا على الثبات ، ويركب الخيل ، ويعدها ليوم الفزع ، وإجابة الصارخ .

          وكذلك في لباسه ، وسائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه ، ومصالح أمته .

          وكذلك يفعل الفعل في أمور الدنيا مساعدة لأمته ، وسياسة وكراهية لخلافها ، وإن كان قد يرى غيره خيرا منه ، كما يترك الفعل لهذا ، وقد يرى فعله خيرا منه ، وقد يفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد وجهيه ، كخروجه من المدينة لأحد ، وكان مذهبه التحصن بها ، وتركه قتل المنافقين ، وهو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ، ورعاية للمؤمنين من قرابتهم ، وكراهة لأن يقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه ، كما جاء في الحديث ، وتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش ، وتعظيمهم لتغييرها ، وحذرا من نفار قلوبهم لذلك ، وتحريك متقدم عداوتهم للدين وأهله ، فقال لعائشة في الحديث الصحيح : لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم .

          ويفعل الفعل ثم يتركه ، لكون غيره خيرا منه ، كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من قريش ، وكقوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي .

          ويبسط وجهه للكافر والعدو ؛ رجاء استئلافه .

          ويصبر للجاهل ، ويقول : إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره . ويبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته ، ودين ربه . ويتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته ، ويتسمت في ملاءته ، حتى لا يبدو شيء من أطرافه ، وحتى كأن على رءوس جلسائه [ ص: 530 ] الطير ، ويتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويضحك مما يضحكون منه ، وقد وسع الناس بشره ، وعدله ، لا يستفزه الغضب ، ولا يقصر عن الحق ، ولا يبطن على جلسائه ، يقول : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين .

          فإن قلت : فما معنى قوله لعائشة - رضي الله عنها - في الداخل عليه : بئس ابن العشيرة . فلما دخل ألان له القول ، وضحك معه ، فلما سألته عن ذلك قال : إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره .

          وكيف جاز أن يظهر له خلاف ما يبطن ، ويقول في ظهره ما قال ؟

          فالجواب أن فعله - صلى الله عليه وسلم - كان استئلافا لمثله ، وتطييبا لنفسه ، ليتمكن إيمانه ويدخل في الإسلام بسببه أتباعه ، ويراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام . ومثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية . وقد كان النبي يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ .

          قال صفوان : لقد أعطاني ، وهو أبغض الخلق إلي ، فما زال يعطيني حتى صار أحب الخلق إلي .

          وقوله فيه : بئس ابن العشيرة هو غير غيبة ، بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ، ويحترز منه ، ولا يوثق بجانبه كل الثقة ، ولا سيما ، وكان مطاعا متبوعا .

          ومثل هذا إذا كان لضرورة ، ودفع مضرة لم يكن بغيبة ، بل كان جائزا ، بل واجبا في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة ، والمزكين في الشهود .

          فإن قيل : فما معنى المعضل الوارد في حديث بريرة من قوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ، وقد أخبرته أن موالي بريرة أبوا بيعها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : اشتريها ، واشترطي لهم الولاء .

          ففعلت ، ثم قام خطيبا ، فقال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمرها بالشرط لهم ، وعليه باعوا ، ولولاه ، والله أعلم لما باعوها من عائشة ، كما لم [ ص: 531 ] يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ، ثم أبطله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو قد حرم الغش ، والخديعة .

          فاعلم أكرمك الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ولتنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ما قد أنكر قوم هذه الزيادة : قوله : اشترطي لهم الولاء ، إذ ليست في أكثر طرق الحديث ، ومع ثباتها فلا اعتراض بها ، إذ يقع لهم بمعنى عليهم ، قال الله - تعالى - : أولئك لهم اللعنة [ الرعد : 25 ] . وقال : وإن أسأتم فلها [ الإسراء : 7 ] .

          فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ، ويكون قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووعظه لما سلف من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك .

          ووجه ثان : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : اشترطي لهم الولاء ليس على معنى الأمر ، لكن على معنى التسوية ، والإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعهم بعد بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قبل أن الولاء لمن أعتق ، فكأنه قال : اشترطي أو لا تشترطي ، فإنه شرط غير نافع .

          وإلى هذا ذهب الداودي ، وغيره ، وتوبيخ النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ، وتقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا .

          الوجه الثالث : أن معنى قوله : اشترطي لهم الولاء ، أي أظهري لهم حكمه ، وبيني سنته بأن الولاء إنما هو لمن أعتق . ثم بعد هذا قام هو - صلى الله عليه وسلم - مبينا ذلك ، وموبخا على مخالفة ما تقدم منه فيه .

          فإن قيل : فما معنى فعل يوسف - عليه السلام - بأخيه ، إذ جعل السقاية في رحله ، وأخذه باسم سرقتها ، وما جرى على إخوته في ذلك ، وقوله - تعالى - : إنكم لسارقون [ يوسف : 70 ] ، ولم يسرقوا .

          فاعلم أكرمك الله أن الآية تدل على أن فعل يوسف كان عن أمر الله ، لقوله - تعالى - : كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله [ يوسف : 76 ] الآية .

          فإذا كان كذلك فلا اعتراض به ، كان فيه ما فيه .

          وأيضا فإن يوسف كان أعلم أخاه بأني أنا أخوك فلا تبتئس ، فكان ما جرى عليه بعد هذا من وفقه ، ورغبته ، وعلى يقين من عقبى الخير له به ، وإزاحة السوء ، والمضرة عنه بذلك . وأما قوله : أيتها العير إنكم لسارقون [ يوسف : 70 ] ، فليس من قول يوسف . فيلزم عليه جواب يحل شبهه . ولعل قائله إن حسن له التأويل كائنا من كان ظن على صورة الحال ذلك ، وقد قيل : قال ذلك لفعلهم قبل بيوسف ، وبيعهم له ، وقيل غير هذا ، ولا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم يأت أنهم قالوه ، حتى يطلب الخلاص منه ، ولا يلزم الاعتذار عن زلات غيرهم .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية