الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الرابع : في بيان ما هو من المقالات كفر ، وما يتوقف أو يختلف فيه ، وما ليس بكفر

          اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع ، ولا مجال للعقل فيه ، والفصل البين في هذا أن كل مقالة صرحت بنفي الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله ، أو مع الله فهو كفر ، كمقالة الدهرية ، وسائر فرق أصحاب الاثنين من الديصانية والمانوية ، وأشباههم من الصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا بعبادة الأوثان أو الملائكة أو الشياطين أو الشمس أو النجوم أو النار أو أحد غير الله من مشركي العرب وأهل الهند والصين والسودان وغيرهم ممن لا يرجع إلى كتاب .

          وكذلك القرامطة وأصحاب الحلول والتناسخ من الباطنية والطيارة من الروافض ، وكذلك من اعترف بإلهية الله ووحدانيته ، ولكنه اعتقد أنه غير حي أو غير قديم ، وأنه محدث أو مصور ، أو ادعى له ولدا أو صاحبة أو والدا ، أو أنه متولد من شيء أو كائن عنه ، أو أن معه في الأزل شيئا قديما غيره ، أو أن ثم صانعا للعالم سواه ، أو مدبرا غيره ، فذلك كله كفر بإجماع المسلمين ، كقول الإلهيين من الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين . وكذلك من ادعى مجالسة

          [ ص: 586 ] الله والعروج إليه ومكالمته ، أو حلوله في أحد الأشخاص ، كقول بعض المتصوفة والباطنية والنصارى والقرامطة .

          وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم أو بقائه أو شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة والدهرية ، أو قال بتناسخ الأرواح وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص وتعذيبها أو تنعمها فيها بحسب زكائها وخبثها . وكذلك من اعترف بالإلهية والوحدانية ، ولكنه جحد النبوة من أصلها عموما ، أو نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - خصوصا ، أو أحدا من الأنبياء الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك ، فهو كافر بلا ريب ، كالبراهمة ومعظم اليهود والأروسية من النصارى ، والغرابية من الروافض الزاعمين أن عليا كان المبعوث إليه جبريل ، وكالمعطلة والقرامطة والإسماعيلية والعنبرية من الرافضة ، وإن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم .

          وكذلك من دان بالوحدانية وصحة النبوة ونبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به ، ادعى في ذلك المصلحة بزعمه أو لم يدعها فهو كافر بإجماع ، كالمتفلسفين وبعض الباطنية والروافض وغلاة المتصوفة وأصحاب الإباحة ، فإن هؤلاء زعموا أن ظواهر الشرع وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان ويكون من أمور الآخرة ، والحشر والقيامة والجنة والنار ، ليس منها شيء على مقتضى لفظها ومفهوم خطابها ، وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم ، إذ لم يمكنهم التصريح لقصور أفهامهم ، فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع وتعطيل الأوامر والنواهي وتكذيب الرسل والارتياب فيما أتوا به .

          وكذلك من أضاف إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - تعمد الكذب فيما بلغه ، وأخبر به أو شك في صدقه أو سبه ، أو قال : إنه لم يبلغ أو استخف به ، أو بأحد من الأنبياء أو أزرى عليهم أو آذاهم أو قتل نبيا أو حاربه ، فهو كافر بإجماع .

          وكذلك نكفر من ذهب مذهب القدماء في أن في كل جنس من الحيوان نذيرا أو نبيا من القردة والخنازير والدواب والدود . ويحتج بقوله - تعالى - : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ فاطر : 24 ] . إذ ذلك يؤدي إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة . وفيه من الإزراء على هذا المنصب المنيف ما فيه ، مع إجماع المسلمين على خلافه وتكذيب قائله .

          وكذلك نكفر من اعترف من الأصول الصحيحة بما تقدم ، وبنبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن قال : كان أسود ، أو مات قبل أن يلتحي ، وليس الذي كان بمكة والحجاز ، أو ليس بقرشي ، لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفي له ، وتكذيب به .

          وكذلك من ادعى نبوة أحد مع نبينا - صلى الله عليه وسلم - أو بعده ، كالعيسوية من اليهود القائلين بتخصيص رسالته إلى العرب ، وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل ، وكأكثر الرافضة القائلين بمشاركة علي في الرسالة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبعده ، وكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والحجة ، وكالبزيغية والبيانية منهم القائلين بنبوة بزيع وبيان وأشباه هؤلاء . أو من ادعى النبوة لنفسه ، أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة المتصوفة .

          وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه ، وإن لم يدع النبوة ، أو أنه يصعد إلى السماء ، ويدخل إلى الجنة ، ويأكل من ثمارها ويعانق [ ص: 587 ] الحور العين ، فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم النبيين ، لا نبي بعده . وأخبر عن الله - تعالى - أنه خاتم النبيين ، وأنه أرسل كافة للناس .

          وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على ظاهره ، وأن مفهومه المراد منه دون تأويل ، ولا تخصيص ، فلا شك في كفر هؤلاء الطوائف كلها قطعا إجماعا وسمعا .

          وكذلك ، وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نص الكتاب ، أو خص حديثا مجمعا على نقله مقطوعا به ، مجمعا على حمله على ظاهره ، كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ، ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل ، أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم ، وإن أظهر مع ذلك الإسلام ، واعتقده ، واعتقد إبطال كل مذهب سواه ، فهو كافر بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك .

          وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة ، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، إذ لم تقدم عليا . وكفرت عليا ، إذ لم يتقدم ، ويطلب حقه في التقديم ، فهؤلاء قد كفروا من وجوه ، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها ، إذ قد انقطع نقلها ، ونقل القرآن إذ ناقلوه كفرة على زعمهم ، وإلى هذا ، والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة .

          ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على مقتضى قولهم ، وزعمهم أنه عهد إلى علي - رضي الله عنه - ، وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم ، لعنة الله عليهم ، وصلى الله على رسوله وآله .

          وكذلك نكفر بكل فعل أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر ، وإن كان صاحبه مصرحا بالإسلام مع فعله ذلك الفعل ، كالسجود للصنم وللشمس والقمر والصليب والنار ، والسعي إلى الكنائس ، والبيع مع أهلها والتزيي بزيهم : من شد الزنانير ، وفحص الرءوس ، فقد أجمع المسلمون أن هذا لا يوجد إلا من كافر ، وأن هذه الأفعال علامة على الكفر ، وإن صرح فاعلها بالإسلام .

          وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه ، كأصحاب الإباحة من القرامطة ، وبعض غلاة المتصوفة .

          وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب ، وأنكر قاعدة من قواعد الشرع ، وما عرف يقينا بالنقل المتواتر من فعل الرسول ، ووقع الإجماع المتصل عليه ، كمن أنكر وجوب الخمس الصلوات أو عدد ركعاتها وسجداتها ، ويقول : إنما أوجب الله علينا في كتابه [ ص: 588 ] الصلاة على الجملة ، وكونها خمسا ، وعلى هذه الصفات والشروط لا أعلمه ، إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلي ، والخبر به عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خبر واحد .

          وكذلك أجمع المسلمون على تكفير من قال من الخوارج : إن الصلاة طرفي النهار ، وعلى تكفير الباطنية في قولهم : إن الفرائض أسماء رجال أمروا بولايتهم ، والخبائث والمحارم أسماء رجال أمروا بالبراء منهم .

          وقول بعض المتصوفة : إن العبادة وطول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى إسقاطها وإباحة كل شيء لهم ورفع عهد الشرائع عنهم .

          وكذلك إن أنكر منكر مكة أو البيت أو المسجد الحرام ، أو صفة الحج ، أو قال : الحج واجب في القرآن واستقبال القبلة كذلك ، ولكن كونه على هذه الهيئة المتعارفة ، أن تلك البقعة هي مكة والبيت والمسجد الحرام ، لا أدري هي تلك أو غيرها ، ولعل الناقلين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسرها بهذه التفاسير غلطوا ووهموا ، فهذا ومثله لا مرية في تكفيره إن كان ممن يظن به علم ذلك ، وممن يخالط المسلمين ، وامتدت صحبته لهم ، إلا أن يكون حديث عهد بإسلام ، فيقال له : سبيلك أن تسأل عن هذا الذي لم تعلمه بعد كافة المسلمين ، فلا تجد بينهم خلافا ، كافة عن كافة إلى معاصري الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الأمور كما قيل لك وأن تلك البقعة هي مكة ، والبيت الذي فيها هو الكعبة والقبلة التي صلى لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، وحجوا إليها ، وطافوا بها ، وأن تلك الأفعال هي صفة عبادة الحج والمراد به ، وهي التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، وأن صفات الصلاة المذكورة هي التي فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وشرح مراد الله بذلك ، وأبان حدودها ، فيقع لك العلم كما وقع لهم ، ولا ترتاب بذلك بعد ، والمرتاب في ذلك ، أو المنكر بعد البحث وصحبة المسلمين كافر باتفاق ، لا يعذر بقوله : لا أدري ولا يصدق فيه ، بل ظاهره التستر عن التكذيب ، إذ لا يمكن أنه لا يدري .

          وأيضا فإنه إذا جوز على جميع الأمة الوهم والغلط فيما نقلوه من ذلك ، وأجمعوا أنه قول الرسول وفعله ، وتفسير مراد الله به أدخل الاسترابة في جميع الشريعة ، إذ هم الناقلون لها وللقرآن وانحلت عرى الدين كرة ، ومن قال هذا كافر .

          وكذلك من أنكر القرآن أو حرفا منه ، أو غير شيئا منه ، أو زاد فيه ، كفعل الباطنية والإسماعيلية ، أو زعم أنه ليس بحجة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو ليس فيه حجة ولا معجزة ، كقول هشام الفوطي ومعمر الصيمري : إنه لا يدل على الله ، ولا حجة فيه لرسوله ، ولا يدل على ثواب ولا عقاب ولا حكم ، ولا محالة في كفرهما بذلك القول .

          وكذلك تكفيرهما بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة له ، أو في خلق السماوات والأرض دليل على الله ، لمخالفتهم الإجماع والنقل المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باحتجاجه بهذا كله وتصريح القرآن به .

          وكذلك من أنكر شيئا مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس ومصاحف المسلمين ، ولم يكن جاهلا به ، ولا قريب عهد بالإسلام ، واحتج لإنكاره إما بأنه لم يصح النقل عنده ، ولا بلغه العلم به ، أو لتجويزه الوهم على ناقليه ، فنكفره بالطريقين المتقدمين ، لأنه مكذب للقرآن مكذب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكنه تستر بدعواه .

          وكذلك من أنكر الجنة أو النار أو البعث أو [ ص: 589 ] الحساب أو القيامة فهو كافر بإجماع للنص عليه ، وإجماع الأمة على صحة نقله متواترا ، وكذلك من اعترف بذلك ، ولكنه قال : إن المراد بالجنة والنار والحشر والنشر والثواب والعقاب معنى غير ظاهره ، وإنها لذات روحانية ، ومعان باطنة ، كقول النصارى والفلاسفة والباطنية وبعض المتصوفة ، وزعمهم أن معنى القيامة الموت أو فناء محض وانتقاض هيئة الأفلاك وتحليل العالم ، كقول بعض الفلاسفة .

          وكذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم : إن الأئمة أفضل من الأنبياء .

          فأما من أنكر ما عرف بالتواتر من الأخبار والسير والبلاد التي لا ترجع إلى إبطال شريعة ، ولا تفضي إلى إنكار قاعدة من الدين ، كإنكار غزوة تبوك أو مؤتة ، أو وجود أبي بكر وعمر أو قتل عثمان وخلافة علي ، مما علم بالنقل ضرورة ، وليس في إنكاره جحد شريعة ، فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك ، وإنكار وقوع العلم له ، إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة ، كإنكار هشام وعباد وقعة الجمل ، ومحاربة علي من خالفه .

          فأما إن ضعف ذلك من أجل تهمة الناقلين ، ووهم المسلمين أجمع ، فنكفره بذلك لسريانه إلى إبطال الشريعة .

          فأما من أنكر الإجماع المجرد الذي ليس طريقه النقل المتواتر عن الشارع فأكثر المتكلمين من الفقهاء ، والنظار في هذا الباب قالوا بتكفير كل من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عليه عموما .

          وحجتهم قوله - تعالى - : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى [ النساء : 115 ] الآية . .

          وقوله - صلى الله عليه وسلم - : من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . وحكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع .

          وذهب آخرون إلى الوقوف عن القطع بتكفير من خالف الإجماع الذي يختص بنقله العلماء .

          وذهب آخرون إلى التوقف في تكفير من خالف الإجماع الكائن عن نظر ، كتكفير النظام بإنكاره الإجماع ، لأنه بقوله هذا مخالف إجماع السلف على احتجاجهم به ، خارق للإجماع .

          قال القاضي أبو بكر : القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده ، والإيمان بالله هو العلم بوجوده ، وأنه لا يكفر أحد بقول ولا رأي إلا أن يكون هو الجهل بالله ، فإن عصى بقول أو فعل نص الله ورسوله ، أو أجمع المسلمون أنه لا يوجد إلا من كافر ، أو يقوم دليل على ذلك ، فقد كفر ، ليس لأجل قوله أو فعله ، لكن لما يقارنه من الكفر ، فالكفر بالله لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور : أحدها : [ ص: 590 ] الجهل بالله - تعالى - . والثاني : أن يأتي فعلا أو يقول قولا يخبر الله ورسوله أو يجمع المسلمون أن ذلك لا يكون إلا من كافر ، كالسجود للصنم ، والمشي إلى الكنائس بالتزام الزنار مع أصحابها في أعيادهم ، أو أن يكون ذلك القول أو الفعل لا يمكن معه العلم بالله - تعالى - .

          قال : فهذان الضربان وإن لم يكونا جهلا بالله فهما علم أن فاعلهما كافر منسلخ من الإيمان فأما من نفى صفة من صفات الله - تعالى - الذاتية ، أو جحدها مستبصرا في ذلك ، كقوله : ليس بعالم ولا قادر ولا مريد ولا متكلم ، وشبه ذلك من صفات الكمال الواجبة له - تعالى - ، فقد نص أئمتنا على الإجماع على كفر من نفى عنه - تعالى - الوصف بها ، وأعراه عنها .

          وعلى هذا حمل قول سحنون : من قال : ليس لله كلام ، فهو كافر ، وهو لا يكفر المتأولين كما قدمناه .

          فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء هاهنا ، فكفره بعضهم ، وحكي ذلك عن أبي جعفر الطبري ، وغيره ، وقال به أبو الحسن الأشعري مرة .

          وذهبت طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن اسم الإيمان وإليه رجع الأشعري ، قال : لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادا يقطع بصوابه ، ويراه دينا وشرعا ، وإنما نكفر من اعتقد أن مقاله حق .

          واحتج هؤلاء بحديث السوداء ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما طلب منها التوحيد لا غير وبحديث القائل : لئن قدر الله علي ، وفي رواية فيه : لعلي أضل الله .

          ثم قال : فغفر الله له .

          قالوا : ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات ، وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل .

          وقد أجاب الآخر عن هذا الحديث بوجوه ، منها أن قدر بمعنى قدر ، ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه ، بل في نفس البعث الذي لا يعلم إلا بشرع ، ولعله ورد عندهم به شرع يقطع عليه ، فيكون الشك به حينئذ فيه كفرا .

          فأما ما لم يرد شرع فهو من مجوزات العقول ، أو يكون قدر بمعنى ضيق ، ويكون ما فعله بنفسه إزراء عليها وغضبا لعصيانها .

          وقيل : قال ما قاله ، وهو غير عاقل لكلامه ، ولا ضابط للفظه مما استولى عليه من الجزع والخشية التي أذهبت لبه ، فلم يؤاخذ به .

          وقيل : كان هذا في زمن الفترة ، وحيث ينفع مجرد التوحيد .

          وقيل : بل هذا من مجاز كلام العرب الذي صورته الشك ، ومعناه التحقيق ، وهو يسمى تجاهل العارف ، وله أمثلة في كلامهم ، كقوله - تعالى - : لعله يتذكر أو يخشى [ طه : 44 ] . وقوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ سبأ : 24 ] .

          فأما من أثبت الوصف ، ونفى الصفة فقال : أقول عالم ، ولكن لا علم له ، ومتكلم ، ولكن لا كلام له . وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة : فمن قال بالمآل لما يؤديه إليه قوله ، ويسوقه إليه مذهبه كفره ، لأنه إذا نفى العلم انتفى وصف عالم ، إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم فكأنهم [ ص: 591 ] صرحوا عنده بما أدى إليه قولهم . وهكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل من المشبهة والقدرية وغيرهم .

          ومن لم ير أخذهم بمآل قولهم ، ولا ألزمهم موجب مذهبهم ، لم ير إكفارهم ، قال : لأنهم إذا وقفوا على هذا قالوا : لا نقول ليس بعالم ، ونحن ننتفي من القول بالمآل الذي ألزمتوه لنا ، ونعتقد نحن وأنتم أنه كفر ، بل نقول : إن قولنا لا يئول إليه على ما أصلناه .

          فعلى هذين المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل ، وإذا فهمته اتضح لك الموجب لاختلاف الناس في ذلك .

          والصواب ترك إكفارهم والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم ووراثاتهم ومناكحاتهم ودياتهم والصلاة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين ، وسائر معاملاتهم ، لكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب وشديد الزجر والهجر ، حتى يرجعوا عن بدعتهم .

          وهذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم ، فقد كان نشأ على زمان الصحابة وبعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القدر ورأي الخوارج والاعتزال ، فما أزاحو لهم قبرا ، ولا قطعوا لأحد منهم ميراثا ، لكنهم هجروهم وأدبوهم بالضرب والنفي والقتل على قدر أحوالهم ، لأنهم فساق ضلال عصاة أصحاب كبائر عند المحققين ، وأهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم خلافا لمن رأى غير ذلك . والله الموفق للصواب .

          قال القاضي أبو بكر ، وأما مسائل الوعد والوعيد والرؤية والمخلوق وخلق الأفعال وبقاء الأعراض والتولد وشبهها من الدقائق فالمنع في إكفار المتأولين فيها أوضح ، إذ ليس في الجهل بشيء منها جهل بالله - تعالى - ، ولا أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئا منها .

          وقد قدمنا في الفصل قبله من الكلام وصورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله - تعالى - .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية