الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل الثاني : بين النبوة ، والرسالة

          اعلم أن الله جل اسمه قادر على خلق المعرفة في قلوب عباده ، والعلم بذاته ، وأسمائه ، وصفاته ، وجميع تكليفاته ابتداء دون واسطة لو شاء ، كما حكي عن سنته في بعض الأنبياء ، وذكره بعض أهل التفسير في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ الشورى : 51 ] .

          وجائز أن يوصل إليهم جميع ذلك بواسطة تبلغهم كلامه ، وتكون تلك الواسطة ، إما من غير البشر ، كالملائكة مع الأنبياء ، أو من جنسهم ، كالأنبياء مع الأمم ، ولا مانع لهذا من دليل العقل .

          وإذا جاز هذا ولم يستحل ، وجاءت الرسل بما دل على صدقهم من معجزاته ، وجب تصديقهم في جميع ما أتوا به ، لأن المعجزة مع التحدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - قائم مقام قول الله : صدق عبدي فأطيعوه ، واتبعوه ، وشاهد على صدقه فيما يقوله ، وهذا كاف .

          والتطويل فيه خارج عن الغرض ، فمن أراد تتبعه وجده مستوفى في مصنفات أئمتنا رحمهم الله .

          فالنبوة في لغة من همز مأخوذة من النبأ ، وهو الخبر ، وقد لا تهمز على هذا التأويل تسهيلا .

          والمعنى أن الله - تعالى - أطلعه على غيبه ، وأعلمه أنه نبيه ، فيكون نبي منبأ فعيل بمعنى مفعول ، أو يكون مخبرا عما بعثه الله - تعالى - به ، ومنبئا بما أطلعه الله عليه فعيل بمعنى فاعل ، ويكون عند من لم يهمزه من النبوة ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ومعناه أن له رتبة شريفة ، ومكانة نبيهة عند مولاه منيفة ، فالوصفان في حقه مؤتلفان .

          وأما الرسول فهو المرسل ، ولم يأت فعول بمعنى مفعل في اللغة إلا نادرا ، وإرساله : أمر الله له بالإبلاغ إلى من أرسله إليه ، واشتقاقه من التتابع ، ومنه قولهم : جاء الناس أرسالا ، إذا اتبع بعضهم بعضا ، فكأنه ألزم تكرير التبليغ ، أو ألزمت الأمة اتباعه .

          واختلف العلماء : هل النبي ، والرسول بمعنى ، أو بمعنيين ؟ فقيل : هما سواء ، وأصله من الإنباء ، وهو الإعلام ، واستدلوا بقوله - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي [ الحج : 52 ] ، فقد أثبت لهما معا الإرسال ، قال : ولا يكون النبي إلا رسولا ، ولا الرسول إلا نبيا .

          وقيل : هما مفترقان من وجه ، إذ قد اجتمعا في النبوة التي هي الاطلاع على الغيب ، والإعلام بخواص النبوة ، أو الرفعة لمعرفة ذلك ، وحوز درجتها ، وافترقا في زيادة الرسالة للرسول ، هو الأمر بالإنذار ، والإعلام كما قلنا .

          وحجتهم من الآية نفسها التفريق بين الاسمين ، ولو كانا شيئا واحدا لما حسن تكرارهما في الكلام البليغ ، قالوا : والمعنى : وما أرسلنا من رسول إلى أمة أو نبي وليس بمرسل إلى أحد .

          وقد ذهب بعضهم إلى أن الرسول من جاء بشرع مبتدأ ، ومن لم يأت به نبي غير رسول ، وإن أمر بالإبلاغ ، والإنذار .

          والصحيح ، والذي عليه الجماء الغفير ، أن كل [ ص: 276 ] رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا .

          وأول الرسل آدم ، وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - .

          وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - : إن الأنبياء مائة ألف ، وأربعة وعشرون ألف نبي .

          وذكر أن الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أولهم آدم - عليه السلام - . فقد بان لك معنى النبوة ، والرسالة ، وليستا عند المحققين ذاتا للنبي ، ولا وصف ذات ، خلافا للكرامية في تطويل لهم وتهويل ليس عليه تعويل .

          وأما الوحي فأصله الإسراع ، فلما كان النبي يتلقى ما يأتيه من ربه بعجل سمي وحيا ، وسميت أنواع الإلهامات وحيا ، تشبيها بالوحي إلى النبي ، وسمي الخط وحيا لسرعة حركة يد كاتبه ، ووحي الحاجب واللحظ سرعة إشارتهما ، ومنه قوله - تعالى - : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ مريم : 11 ] ، أي أومأ ، ورمز ، وقيل : كتب ، ومنه قولهم : الوحا الوحا ، أي السرعة السرعة .

          وقيل أصل الوحي السر والإخفاء ، ومنه سمي الإلهام وحيا ، ومنه : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم [ الأنعام : 121 ] ، أي يوسوسون في صدورهم ، ومنه قوله : وأوحينا إلى أم موسى [ القصص : 7 ] ، أي ألقي في قلبها .

          وقد قيل ذلك في قوله - تعالى - : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا [ الشورى : 51 ] ، أي ما يلقيه في قلبه دون واسطة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية