الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : الدرجة الثانية : تهذيب الحال . وهو أن لا يجنح الحال إلى علم ، ولا يخضع لرسم ، ولا يلتفت إلى حظ .

أما جنوح الحال إلى العلم فهو نوعان : ممدوح ، ومذموم .

فالممدوح : التفاته إليه ، وإصغاؤه إلى ما يأمر به ، وتحكيمه عليه ، فمتى لم يجنح إليه هذا الجنوح كان حالا مذموما . ناقصا مبعدا عن الله . فإن كل حال لا يصحبه علم يخاف عليه أن يكون من خدع الشيطان . وهذا القدر هو الذي أفسد على أرباب الأحوال أحوالهم ، وعلى أهل الثغور ثغورهم ، وشردهم عن الله كل مشرد ، وطردهم عنه كل مطرد ؛ حيث لم يحكموا عليه العلم ، وأعرضوا عنه صفحا ، حتى قادهم إلى الانسلاخ من حقائق الإيمان ، وشرائع الإسلام .

وهم الذين قال فيهم سيد الطائفة الجنيد بن محمد - لما قيل له : أهل المعرفة [ ص: 100 ] يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله - فقال الجنيد : إن هذا كلام قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الجوارح . وهو عندي عظيمة . والذي يزني ويسرق أحسن حالا من الذي يقول هذا . فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله . وإليه رجعوا فيها . ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة ، إلا أن يحال بي دونها .

وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق ، إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم .

وقال : من لم يحفظ القرآن ، ويكتب الحديث لا يقتدى به في طريقنا هذا ؛ لأن طريقنا وعلمنا مقيد بالكتاب والسنة .

وقال : علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والبلية التي عرضت لهؤلاء : أن أحكام العلم تتعلق بالعلم وتدعو إليه . وأحكام الحال تتعلق بالكشف . وصاحب الحال ترد عليه أمور ليست في طور العلم . فإن أقام عليها ميزان العلم ومعياره ، تعارض عنده العلم والحال ، فلم يجد بدا من الحكم على أحدهما بالإبطال . فمن حصلت له أحوال الكشف ، ثم جنح إلى أحكام العلم . فقد رجع القهقرى ، وتأخر في سيره إلى وراء .

فتأمل هذا الوارد ، وهذه الشبهة التي هي سم ناقع تخرج صاحبها من المعرفة والدين كإخراج الشعرة من العجين .

واعلم أن المعرفة الصحيحة هي روح العلم . والحال الصحيح هو روح العمل المستقيم . فكل حال لا يكون نتيجة العمل المستقيم مطابقا للعلم فهو بمنزلة الروح الخبيثة الفاجرة . ولا ينكر أن يكون لهذه الروح أحوال ، لكن الشأن في مرتبة تلك الأحوال ومنازلها . فمتى عارض الحال حكم من أحكام العلم ، فذلك الحال إما فاسد وإما ناقص . ولا يكون مستقيما أبدا .

فالعلم الصحيح ، والعلم المستقيم : هما ميزان المعرفة الصحيحة ، والحال الصحيح ، وهما كالبدنين لروحيهما .

فأحسن ما يحمل عليه قوله : " أن يجنح الحال إلى العلم " أن العلم يدعو إلى التفرقة دائما . والحال يدعو إلى الجمعية . والقلب بين هذين الداعيين . فهو يجيب هذا مرة وهذا مرة . فتهذيب الحال وتصفيته : أن يجيب داعي الحال لا داعي العلم . ولا يلزم من هذا إعراضه عن العلم ، وعدم تحكيمه والتسليم له ، بل هو متعبد بالعلم ، محكم له ، [ ص: 101 ] مستسلم له ، غير مجيب لداعيه من التفرقة . بل هو مجيب لداعي الحال والجمعية ، آخذ من العلم ما يصحح له حاله وجمعيته ، غير مستغرق فيه استغراق من هو مطرح همته وغاية مقصده ، لا مطلوب له سواه ، ولا مراد له إلا إياه . فالعلم عنده آلة ووسيلة . وطريق توصله إلى مقصده ومطلوبه . فهو كالدليل بين يديه . يدعوه إلى الطريق ويدله عليها ، فهو يجيب داعيه للدلالة ومعرفة الطريق . وما في قلبه من ملاحظة مقصده ، ومطلبه من سيره وسفره وباعث همته على الخروج من أوطانه ومرباه ، ومن بين أصحابه وخلطائه . الحامل له على الاغتراب . والتفرد في طريق الطلب : هو المسير له ، والمحرك والباعث . فلا يجنح عن داعيه إلى اشتغاله بجزيئات أحوال الدليل . وما هو خارج عن دلالته على طريقه .

فهذا مقصد شيخ الإسلام - إن شاء الله تعالى - لا الوجه الأول . والله سبحانه وتعالى أعلم .

فصل

وأما قوله : ولا يخضع لرسم ، أي لا يستولي على قلبه شيء من الكائنات ، بحيث يخضع له قلبه ، فإن صاحب الحال : إنما يطلب الحي القيوم . فلا ينبغي له أن يقف عند المعاهد والرسوم .

وأما قوله : ولا يلتفت إلى حظ ؛ أي إذا حصل له الحال التام : لم يشتغل بفرحه به ، وحظه منه واستلذاذه . فإن ذلك حظ من حظوظ النفس ، وبقية من بقاياها .

التالي السابق


الخدمات العلمية