الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 82 ] فصل

وأما المفصل : فبمعرفة المذاهب الباطلة ، واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها ، فنقول :

الناس قسمان : مقر بالحق تعالى ، وجاحد له ، فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى ، والرد على من جحده ، بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين .

وتأمل حال العالم كله ، علويه وسفليه ، بجميع أجزائه : تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه ، فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده ، لا فرق بينهما ، بل دلالة الخالق على المخلوق ، والفعال على الفعل ، والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية ، والفطر الصحيحة أظهر من العكس .

فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه ، إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه ، ولا ريب أنهما طريقان صحيحان ، كل منهما حق ، والقرآن مشتمل عليهما .

فأما الاستدلال بالصنعة فكثير ، وأما الاستدلال بالصانع فله شأن ، وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم أفي الله شك أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده ؟ وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول ؟ فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى ؟ ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطر السماوات والأرض .

وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه يقول : كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء ؟ وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت :


وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

[ ص: 83 ] ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما .

وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد ، القائلين بوحدة الوجود ، وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق ، بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله ، وهو حقيقة وجود هذا العالم ، فليس عند القوم رب وعبد ، ولا مالك ومملوك ، ولا راحم ومرحوم ، ولا عابد ومعبود ، ولا مستعين ومستعان به ، ولا هاد ولا مهدي ، ولا منعم ولا منعم عليه ، ولا غضبان ومغضوب عليه ، بل الرب هو نفس العبد وحقيقته ، والمالك هو عين المملوك ، والراحم هو عين المرحوم ، والعابد هو نفس المعبود ، وإنما التغاير أمر اعتباري بحسب مظاهر الذات وتجلياتها ، فتظهر تارة في صورة معبود ، كما ظهرت في صورة فرعون ، وفي صورة عبد ، كما ظهرت في صورة العبيد ، وفي صورة هاد ، كما في صورة الأنبياء والرسل والعلماء ، والكل من عين واحدة ، بل هو العين الواحدة ، فحقيقة العابد ووجوده أو أنيته : هي حقيقة المعبود ووجوده وأنيته .

والفاتحة من أولها إلى آخرها تبين بطلان قول هؤلاء الملاحدة وضلالهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية