الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال الدرجة الثانية : تعظيم الحكم : أن يبغى له عوج ، أو يدافع بعلم . أو يرضى بعوض .

الدرجة الأولى : تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي . وهذه الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري . وهو الذي يخصه المصنف باسم الحكم وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم . فكذلك يرعى حكمه الكوني به . فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء .

أحدها أن لا يبغى له عوج أي يطلب له عوج ، أو يرى فيه عوج . بل يراه كله مستقيما . لأنه صادر عن عين الحكمة . فلا عوج فيه . وهذا موضع أشكل على الناس جدا .

فقال نفاة القدر : ما في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج . والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم التفاوت والعوج . فليست بخلقه لا مشيئته ولا قدره .

وقالت فرقة تقابلهم : بل هي من خلق الرحمن وقدره . فلا عوج فيها . وكل ما في الوجود مستقيم .

والطائفتان ضالتان ، منحرفتان عن الهدى . وهذه الثانية أشد انحرافا . لأنها جعلت الكفر والمعاصي طريقا مستقيما لا عوج فيه . وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي ، والحكم والمحكوم به : هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه .

وقول سلف الأمة وجمهورها : إن القضاء غير المقضي . فالقضاء فعله ومشيئته وما قام به . والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه . وهو المشتمل على الخير والشر ، والعوج والاستقامة .

[ ص: 468 ] فقضاؤه كله حق . والمقضي : منه حق ، ومنه باطل . وقضاؤه كله عدل . والمقضي : منه عدل ، ومنه جور ، وقضاؤه كله مرضي . والمقضي : منه مرضي ، ومنه مسخوط . وقضاؤه كله مسالم . والمقضي : منه ما يسالم ، ومنه ما يحارب .

وهذا أصل عظيم تجب مراعاته . وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت والمنحرف عنه : إما جاهل للحكمة ، أو القدرة ، أو للأمر والشرع ولا بد . وعلى هذا يحمل كلام صاحب " المنازل " رحمه الله أن لا يبتغى للحكم عوج .

وأما قوله : أو يدفع بعلم

فأشكل من الأول . فإن العلم مقدم على القدر . وحاكم عليه . ولا يجوز دفع العلم بالحكم .

فأحسن ما يحمل عليه كلامه ، أن يقال : قضاء الله وقدره وحكمه الكوني ، لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني . بحيث تقع المدافعة بينهما . لأن هذا مشيئته الكونية . وهذا إرادته الدينية . وإن كان المرادان قد يتدافعان ويتعارضان . لكن من تعظيم كل منهما : أن لا يدافع بالآخر ولا يعارض . فإنهما وصفان للرب تعالى . وأوصافه لا يدافع بعضها ببعض ، وإن استعيذ ببعضها من بعض . فالكل منه سبحانه . وهو المعيذ من نفسه بنفسه ، كما قال أعلم الخلق به : أعوذ برضاك من سخطك . وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك . وأعوذ بك منك فرضاه - وإن أعاذ من سخطه - فإنه لا يبطله ولا يدفعه . وإنما يدفع تعلقه بالمستعيذ . وتعلقه بأعدائه باق غير زائل . فهكذا أمره وقدره سواء . فإن أمره لا يبطل قدره ، ولا قدره يبطل أمره . ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه . وهو أيضا من قضائه . فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره . فلم يدفع العلم الحكم بل المحكوم به . والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به .

فتأمل هذا . فإنه محض العبودية والمعرفة ، والإيمان بالقدر ، والاستسلام له ، والقيام بالأمر ، والتنفيذ له بالقدر ، فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله . ولا دفع مقدور الله بقدر الله وأمره .

وأما قوله : ولا يرضى بعوض

أي أن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى حد لا يطلب معه عوضا . ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض . فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه ، وعدم تصرفه في نفسه ، وأن [ ص: 469 ] المتصرف فيه حقا هو مالكه الحق . فهو الذي يقيمه ويقعده ، ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال ، وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم وذهل عنه . وذلك مناف لتعظيمه . فمن تعظيمه : أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله . لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعاوض عليه . فهذا الذي يمكن حمل كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر . والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية