الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل قوله : وينبت السرور ، إلا ما يشوبه من حذر المكر .

يعني : أن هذا اللحظ من العبد ينبت له السرور ، إذا علم أن فضل ربه قد سبق له بذلك قبل أن يخلقه ، مع علمه به وبأحواله وتقصيره ، على التفصيل . ولم يمنعه علمه به : أن يقدر له ذلك الفضل والإحسان . فهو أعلم به إذ أنشأه من الأرض ، وإذ هو جنين في بطن أمه . ومع ذلك فقدر له من الفضل والجود ما قدره بدون سبب منه . بل مع علمه بأنه يأتي من الأسباب ما يقتضي قطع ذلك ومنعه عنه .

فإذا شاهد العبد ذلك : اشتد سروره بربه ، وبمواقع فضله وإحسانه . وهذا فرح محمود غير مذموم . قال الله تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ ص: 106 ] .

ففضله : الإسلام والإيمان ، ورحمته : العلم والقرآن . وهو يحب من عبده : أن يفرح بذلك ويسر به . بل يحب من عبده : أن يفرح بالحسنة إذا عملها وأن يسر بها . وهو في الحقيقة فرح بفضل الله ، حيث وفقه الله لها ، وأعانه عليها ويسرها له . ففي الحقيقة : إنما يفرح العبد بفضل الله وبرحمته .

ومن أعظم مقامات الإيمان : الفرح بالله ، والسرور به . فيفرح به إذ هو عبده ومحبه . ويفرح به سبحانه ربا وإلها ، ومنعما ومربيا ، أشد من فرح العبد بسيده المخلوق المشفق عليه ، القادر على ما يريده العبد ويطلبه منه . المتنوع في الإحسان إليه ، والذب عنه .

وسيأتي عن قريب - إن شاء الله - تمام هذا المعنى في باب السرور .

قوله " إلا ما يشوبه من حذر المكر " أي يمازجه . فإن السرور والفرح يبسط النفس وينميها . وينسيها عيوبها وآفاتها ونقائصها . إذ لو شهدت ذلك وأبصرته لشغلها ذلك عن الفرح .

وأيضا فإن الفرح بالنعمة قد ينسيه المنعم . فيشتغل بالخلعة التي خلعها عليه عنه . فيطفح عليه السرور ، حتى يغيب بنعمته عنه . وهنا يكون المكر إليه أقرب من اليد للفم .

ولله كم هاهنا من مسترد منه ما وهب له عزة وحكمة ! وربما كان ذلك رحمة به . إذ لو استمر على تلك الولاية لخيف عليه من الطغيان . كما قال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى فإذا كان هذا غنى بالحطام الفاني ، فكيف بالغنى بما هو أعلى من ذلك وأكثر ؟ فصاحب هذا إن لم يصحبه حذر المكر : خيف عليه أن يسلبه وينحط عنه .

و " المكر " الذي يخاف عليه منه : أن يغيب الله سبحانه عنه شهود أوليته في ذلك ومنته وفضله ، وأنه محض منته عليه ، وأنه به وحده ، ومنه وحده . فيغيب عن شهود حقيقة قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وقوله قل إن الأمر كله لله وقوله وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم [ ص: 107 ] وقوله وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك وقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء وأمثال ذلك .

فيغيبه عن شهود ذلك . ويحيله على معرفته في كسبه وطلبه . فيحيله على نفسه التي لها الفقر بالذات ، ويحجبه عن الحوالة على المليء الوفي الذي له الغنى التام كله بالذات فهذا من أعظم أسباب المكر . والله المستعان .

ولو بلغ العبد من الطاعة ما بلغ ، فلا ينبغي له أن يفارقه هذا الحذر . وقد خافه خيار خلقه ، وصفوته من عباده . قال شعيب - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال له قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها - إلى قوله - على الله توكلنا فرد الأمر إلى مشيئة الله تعالى وعلمه ، أدبا مع الله ، ومعرفة بحق الربوبية ، ووقوفا مع حد العبودية . وكذلك قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لقومه - وقد خوفوه بآلهتهم - فقال ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما فرد الأمر إلى مشيئة الله وعلمه . وقد قال تعالى أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .

وقد اختلف السلف : هل يكره أن يقول العبد في دعائه : اللهم لا تؤمني مكرك ؟

فكان بعض السلف يدعو بذلك . ومراده : لا تخذلني ، حتى آمن مكرك ولا أخافه ، وكرهه مطرف بن عبد الله بن الشخير .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب عن إسحاق عن مطرف : أنه كان يكره أن يقول : اللهم لا تنسني ذكرك ، ولا تؤمني مكرك . ولكن أقول : اللهم لا تنسني ذكرك ، وأعوذ بك أن آمن مكرك ، حتى تكون أنت تؤمنني .

[ ص: 108 ] وبالجملة : فمن أحيل على نفسه ، فقد مكر به .

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد - مولى بني هاشم - حدثنا الصلت بن طريف المعولي حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال : وجدت هذا الإنسان ملقى بين الله عز وجل وبين الشيطان . فإن يعلم الله تعالى في قلبه خيرا : جبذه إليه . وإن لم يعلم فيه خيرا : وكله إلى نفسه . ومن وكله إلى نفسه فقد هلك .

وقال جعفر بن سليمان : حدثنا ثابت عن مطرف قال : لو أخرج قلبي فجعل في يدي هذه في اليسار . وجيء بالخير فجعل في هذه اليمنى . ثم قربت من الأخرى ما استطعت أن أولج في قلبي شيئا حتى يكون الله عز وجل يضعه .

ومما يدل على أن الفرح من أسباب المكر ، ما لم يقارنه خوف : قوله تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون .

وقال قوم قارون له لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين فالفرح متى كان بالله ، وبما من الله به ، مقارنا للخوف والحذر : لم يضر صاحبه ، ومتى خلا عن ذلك : ضره ولا بد .

قوله : ويبعث على الشكر إلا ما قام به الحق عز وجل من حق الصفة .

هذا الكلام يحتمل معنيين .

أحدهما : أن يريد أن هذه الملاحظة تبعثه على الشكر لله في السراء والضراء في كل حين ، إلا ما عجزت قدرته عن شكره . فإن الحق سبحانه هو الذي يقوم به لنفسه بحق كماله المقدس ، وكمال صفاته ونعوته . فتلك الملاحظة تبسط للعبد الشكر الذي يعجز عنه ، ولا يقدر أن يقوم به .

فإن شكر العبد لربه : نعمة من الله أنعم بها عليه . فهي تستدعي شكرا آخر عليها . وذلك الشكر نعمة أيضا . فيستدعي شكرا ثالثا . وهلم جرا . فلا سبيل إلى القيام بشكر الرب على الحقيقة .

ولا يشكره على الحقيقة سواه . فإنه هو المنعم بالنعمة وبشكرها . فهو الشكور لنفسه ، وإن سمى عبده شكورا . فمدحة الشكر في الحقيقة : راجعة إليه ، وموقوفة عليه . فهو الشاكر لنفسه بما أنعم على عبده . فما شكره في الحقيقة سواه ، مع كون العبد عبدا والرب ربا . فهذا أحد المعنيين في كلامه .

[ ص: 109 ] المعنى الثاني : أن هذا اللحظ يبسطه للشكر الذي هو وصفه وفعله . لا الشكر الذي هو صفة الرب جل جلاله وفعله . فإنه سمى نفسه بالشكور ، كما قال تعالى وكان الله شاكرا عليما وقال أهل الجنة إن ربنا لغفور شكور فهذا الشكر الذي هو وصفه سبحانه لا يقوم إلا به . ولا يبعث العبد على الملاحظة المذكورة إلا على وجه واحد . وهو أنه : إذا لاحظ سبق الفضل منه سبحانه ، علم أنه فعل ذلك لمحبته للشكر . فإنه تعالى يحب أن يشكر . كما قال موسى - صلى الله عليه وسلم - : يا رب ، هلا ساويت بين عبادك ؟ فقال : إني أحب أن أشكر .

وإذا كان يحب الشكر فهو أولى أن يتصف به ، كما أنه سبحانه وتر ، يحب الوتر ، جميل يحب الجمال ، محسن يحب المحسنين ، صبور يحب الصابرين ، عفو يحب العفو ، قوي ، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف . فكذلك هو شكور يحب الشاكرين . فملاحظة العبد سبق الفضل تشهده صفة الشكر . وتبعثه على القيام بفعل الشكر . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية