الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : غيبة العارف عن عيون الأحوال والشواهد والدرجات في عين الجمع .

إنما كانت هذه الدرجة عنده أعلى على طريقته في كون الفناء غاية الطالب .

[ ص: 202 ] وهذه الدرجة هي غيبته عن خيرات ومقامات بما هو أكمل منها وأشرف عنده ، وهو حضرة الجمع .

ومعنى غيبته عن عيون الأحوال هو أن لا يرى الأحوال ولا تراه ، فلذلك استعار لها عيونا ؛ لأن الأحوال تقتضي وجدا وموجودا ووجدانا ، وهذا ينافي الفناء في حضرة الجمع ، فإن الجمع يمحو أثر الرسوم ، وقد عرفت مرارا أن هذا ليس بكمال ، ولا هو مطلوب لنفسه ، وغيره أكمل منه .

وأما " غيبته عن الشواهد " فقد يريد بها شواهد المعرفة وأدلتها ، فيغيب بمعروفه عن الشواهد الدالة عليه في الخارج وفي نفسه .

وقد يريد بالشواهد الأسماء والصفات ، والغيبة عنها بشهود الذات ، ولكن هذا ليس بكمال ، ولا هو أعلى من شهود الأسماء والصفات ، بل هذا الشهود هو شهود المعطلة المنكرين لحقائق الأسماء والصفات ، فإنهم ينتهون في فنائهم إلى شهود ذات مجردة .

ومن هاهنا دخل الملاحدة القائلون بوحدة الوجود ، وجعلوا شهود نفس الوجود المجرد عن التقييدات ، وعن سائر الأسماء والصفات هو شهود الحقيقة ، تعالى الله عن كفرهم وإلحادهم علوا كبيرا ، وشيخ الإسلام براء من هؤلاء ومن شهودهم .

ومراد أهل الاستقامة بذلك أن يشهد الذات الجامعة لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فيغيبه شهوده لهذه الذات المقدسة عن شهود صفة واسم .

فالشواهد هي الأفعال الدالة على الصفات المستلزمة للذات ، وشواهد المعرفة هي الأدلة التي حصلت عنها المعرفة ، فإذا طواها الشاهد من وجوده ، وشهد أنه ما عرف الله إلا به ، ولا دل عليه إلا هو غابت عنه شواهده في مشهوده ، كما تغيب معارفه في معروفه .

وبكل حال فما عرف الله إلا بالله ، ولا دل على الله إلا الله ، ولا أوصل إلى الله إلا الله ، فهو الدال على نفسه بما نصبه من الأدلة ، وهو الذاكر لنفسه على لسان عبده . كما قال النبي صلى الله عليه وسلمإن الله قال على لسان نبيه : سمع الله لمن حمده وهو المحب [ ص: 203 ] لنفسه بنفسه ، وبما خلق من عبيده الذين يحبونه ، والشاكر لنفسه بنفسه ، وبما أجراه على ألسنة عبيده وقلوبهم وجوارحهم من ذكره وشكره ، فمنه السبب وهو الغاية هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم .

وللملحد هاهنا مجال ، حيث يظن أن الذاكر والمذكور والذكر ، والعارف والمعروف والمعرفة ، والمحب والمحبوب والمحبة من عين واحدة ، لا بل ذلك هو العين الواحدة ، وأن الذي عرف الله وأحبه هو الله نفسه ، وإن تعددت مظاهره ، فالظاهر فيها واحد ، ظهر بوجوده العيني فيها ، فوجودها عين وجوده ، ووجوده فاض عليها ، وهذا أكفر من كل كفر ، وأعظم من كل إلحاد .

والموحدون يقولون : إنما فاض عليها إيجاده لا وجوده ، فظهر فيها فعله ، بل أثر فعله لا ذاته ولا صفاته ، فقامت به فقرا إليه واحتياجا لا وجودا وذاتا ، وأقامها بمشيئته وربوبيته لا بظهوره فيها .

ولقد لحظ ملاحدة الاتحادية أمرا اشتبه عليهم في وحدة الموجد بوحدة الوجود ، وتوحيد الذات والصفات والأفعال بتوحيد الوجود ، وفيضان جوده بفيضان وجوده ، فوحدوا الوجود وزعموا أنه هو المعبود ، فصاروا عبيد الوجود المطلق الذي لا وجود له في غير الأذهان ، وعبيد الموجودات الخارجة في الأعيان ، فإن وجودها عندهم : هو المسمى بالله ، تعالى الله عن هذا الإلحاد الذي تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وسبحان من هو فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله .

أين حقيقة المخلوق من الماء المهين من ذات رب العالمين ؟ أين المكون من تراب من رب الأرباب ؟ أين الفقير بالذات إلى الغني بالذات ؟ أين وجود من يضمحل وجوده ويفوت إلى حقيقة وجود الحي الذي لا يموت ؟ هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية