الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : تمكن العارف ، وهو أن يحصل في الحضرة فوق حجب الطلب لابسا نور الوجود .

العارف فوق السالك ، ولا يفارقه السلوك ، لكنه مع السلوك قد ظفر بالمعرفة ، فأخذ منها اسما أخص من اسم السالك ، وهكذا الشأن في سائر المقامات والأحوال ، فإنها لا تفارق من ترقى فيها ، ولكن إذا ترقى في مقام أخذ اسمه ، وكان أحق به مع ثبوت الأول له .

والحضرة يراد بها حضرة الجمع ، وعندي : أنها حضرة دوام المراقبة والتمكن من مقام الإحسان ، هذه حضرة الأنبياء والعارفين .

وأما حضرة الجمع التي يشيرون إليها فكل فرقة تشير إلى شيء ، فأهل الفناء يريدون حضرة جمع الفناء في توحيد الربوبية ، وأهل الإلحاد : يريدون حضرة جمع الوجود في وجود واحد ، وطائفة من السالكين يريدون حضرة جمع الأسماء والصفات في ذات واحدة .

[ ص: 208 ] وإذا فسرت بحضرة دوام المراقبة والتمكن في مقام الإحسان كان ذلك أحسن وأصح ، وصاحب هذه الحضرة لدوام مراقبته قد انقشعت عنه سحب الغفلات ، ولم تشغله عن تلك الحضرة الشواغل الملهيات .

قوله : " فوق حجب الطلب " يعني أن العارف قد ارتفع عن مقام الطلب للمعرفة إلى مقام حصولها ، والطالب للأمر دون الواصل إليه ، فالطالب بعد في حجاب طلبه ، والعارف قد ارتفع فوق حجاب الطلب بما شاهده من الحقيقة ، فالطالب شيء ، والواجد شيء .

وهذا كلام يحتاج إلى شرح وبيان ، فإن الطلب لا يفارق العبد ، ما دامت أحكام العبودية تجري عليه ، ولكنه متنقل في منازل الطلب ، ينتقل من عبودية إلى عبودية ، والمعبود واحد جل وعلا ، لا ينتقل عنه ، فكيف يمكن تجرد المعرفة عن الطلب ؟

هذا موضع زلت فيه أقدام ، وضلت فيه أفهام ، وظن المخدوعون المغرورون أنهم قد استغنوا بالمعرفة عن الطلب ، وأن الطلب وسيلة والمعرفة غاية ، ولا معنى للاشتغال بالوسيلة بعد الوصول إلى الغاية .

فهؤلاء خرجوا عن الدين بالكلية ، بعد أن شمروا في السير فيها ، فردوا على أدبارهم ، ونكصوا على أعقابهم ، ولم يفهموا مراد أهل الاستقامة بذكر حجب الطلب .

واعلم أن كل ما منك حجاب على مطلوبك ، فإن وقفت معه فأنت دون الحجاب ، وإن قطعته إلى تجريد المطلوب صرت فوق الحجاب ، فطلبك وإرادتك وتوكلك ، وحالك وعملك كله حجاب ، إن وقفت معه أو ركنت إليه ، وإن جاوزته إلى الذي أنت به وله وفي يديه وتحت تصرفه ومشيئته ، وليس لك ذرة واحدة إلا به ومنه ، ولم تقف مع طلبك‌ في إرادتك فقد صرت فوق حجاب الطلب .

ففي الحقيقة : أنت حجاب قلبك عن ربك ، فإذا كشفت الحجاب عن القلب أفضى إلى الرب ، ووصل إلى الحضرة المقدسة .

وقولنا : " إذا كشفت الحجاب " إخبار عن محل العبودية ، وإلا فكشفه ليس بيدك ، ولا أنت الكاشف له ، فإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو .

ومن أعظم الضر : حجاب القلب عن الرب ، وهو أعظم عذابا من الجحيم ، قال [ ص: 209 ] تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم .

قوله : " لابسا نور الوجود " المعنى الصحيح من هذه اللفظة : أن نور الوجود نور ظفره بإقبال قلبه على الله عز وجل ، وجمع همه عليه ، وفنائه بمراده عن مراد نفسه ، فصار واجدا لما أكثر الخلق فاقد له ، قد لبس قلبه نور ذلك الوجود ، حتى فاض على لسانه وجوارحه ، وحركاته وسكناته ، فإن نطق علاه النور وإن سكت علاه النور .

وأخص من هذا : أنه قد فاض على قلبه نور اليقين بالأسماء والصفات ، فصار لقلبه من معرفتها والإيمان بها ، وذوق حلاوة ذلك نور خاص غير مجرد نور العبادة والإرادة والسلوك ، وإياك أن تلتفت إلى غير هذا فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله .

وليس مراد الشيخ بالوجود ما يريده المتكلمون والفلاسفة ، ولا ما يريده الاتحادية الملاحدة ، وإنما مراده به الوجدان بعد الفقد ، كما يقال : فلان واجد ، وفلان فاقد ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية