الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : وهو على ثلاث درجات : بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عينا لا علما ، وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا لا نعتا ، وبقاء ما لم يزل حقا بإسقاط ما لم يكن محوا .

قلت : أما بقاء المعلوم بعد سقوط العلم ، فقد يظهر في بادئ الأمر امتناعه ، إذ كونه معلوما - مع سقوط العلم به - جمع بين النقيضين ، وكأنه معلوم غير معلوم ، فإن المعلوم لا يكون معلوما إلا بالعلم ، فكيف يكون معلوما مع سقوطه ؟

وجواب هذا ، أن هنا أمرين :

أحدهما : وجود صورة المعلوم في قلب العالم ، وإدراكه لها وشعوره بها .

والثاني : علمه بعلمه وشعوره ، وهو أمر وراء حضور تلك الصورة ، وهذا في سائر المدارك ، فقد يرى الرائي الشيء ويسمعه ويشمه ، ويغيب عن علمه وشعوره بصفة نفسه التي هي إدراكه ، فيغيب بمدركه عن إدراكه ، وبمعلومه عن علمه وبمرئيه عن رؤيته ، فإن قلت : أوضح لي هذا لينجلي فهمه .

فاعلم أن هاهنا قوة مدركة له إذا تعلقت به صار معلوما مدركا ، فتولد من بين [ ص: 358 ] هذين الأمرين حالة ثالثة ، تسمى " الشعور " و " العلم " و " الإدراك " .

مثال ذلك : ما يدركه بحاسة الذوق والشم ، فإنه لابد من وجود المدرك المذوق المشموم ، ولابد من قوة في الآلة والمحل المخصوص ، تقابل المدرك ، وتتعلق به ، فيتولد من بين الأمرين كيفية الشم والذوق ، وكذلك في الملموس والمسموع والمرئي ، فتمام الإدراك أن يحيط علما بهذه الأمور الثلاثة ، فيشعر بالمدرك ، وبالقوة المدركة ، وبحالة الإدراك ، فإذا استغرق القلب في شهوده المعلوم غاب به عن شهود القوة التي بها يعلم ، وعن حالة العلم ، ومثل هذا برجل أدرك بلمسه ما التذ به أعظم لذة حصلت له ، فاستغرقته تلك اللذة عما سواها ، فأسقطت شعوره بها دون وجودها ، ولهذا قال الشيخ " بقاء المعلوم بعد سقوط العلم عيانا لا علما " فعيانا حال من البقاء لا من السقوط أي بقاؤه وجودا لا نعتا ، فإنه في مرتبة العلم باق نعتا ووصفا ، وفي هذه المرتبة باق وجودا وعيانا لا علما مجردا .

وهذا وجه ثان في كلامه أنه يبقى وجوده وعينه لا مجرد العلم به ، فالعلم به لم يعدم ، ولكن انتقل العبد من وجود العلم إلى وجود المعلوم .

وكذلك قوله - في الدرجة الثانية - " وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا لا نعتا " الشهود فوق العلم لأنه علم عيان ، فينتقل من مجرد الشهود إلى الوجود ، فيبقى المشهود موجودا له بعد أن كان مشهودا ، ومرتبة الوجود فوق مرتبة الشهود فإن الوجود حصول ذاتي ، والشهود حصول علمي ، وإن كان فوق العلم .

قوله في الدرجة الثالثة : " وبقاء من لم يزل حقا بإسقاط ما لم يكن محوا " ، أي يغلب على القلب سلطان الحقيقة ، ونور الجمع ، حتى ينطمس من قلبه أثر المخلوقات كما ينطمس نور الكواكب بطلوع الشمس ، ويبقى فيه تعظيم من لم يزل وذكره وحبه ، والاشتغال به لا بغيره .

فالدرجة الأولى : بقاء في مرتبة العلم ، والثانية : بقاء في مرتبة الشهود ، والثالثة : بقاء في مرتبة الوجود ، فهذا وجه .

ويمكن شرح كلامه على وجه آخر ، وهو : أن المعلوم يسقط شهود العلم ، فالعلم يسقط والمعلوم يثبت ، فالعبد إذا بقي بعد الفناء سقط علمه في مشهد عيانه بحيث تبقى مرتبة العلم عيانا ، فيسقط العلم بالعيان ، بحيث يصير عينا لا علما ، فإذا نظرت إلى العلم باعتبار العين - وهي حضرة الجمع - سقط العلم ، فإذا نظرت إليه باعتبار الفرق لم يسقط ، فسقوطه في حضرة الجمع ، وثبوته في مقام الفرق .

[ ص: 359 ] قوله : " وبقاء المشهود بعد سقوط الشهود وجودا " ، يعني : بقاء الحق الذي هو المشهود بعد سقوط الشهود الذي هو المخلوق : كان المشهود صفة المشاهد ، والمشاهد وصفاته مخلوق ، ومشهوده سبحانه غير مخلوق ، كما أن علمه وذكره ومعرفته مخلوقة ، والمعلوم المذكور المعروف سبحانه غير مخلوق ، وإذا كان الموصوف قد فني ، وصفاته تابعة له في الفناء ، فيفنى شهوده ويبقى مشهوده .

قوله " وجودا لا نعتا " أي سقط وجود شهوده لا نعته والإخبار عنه .

قوله " وبقاء ما لم يزل حقا بإسقاط ما لم يكن محوا " يوضح المراد من الدرجتين اللتين قبل ، ومعناه : بقاء الحق ، وفناء المخلوق ، والحق - سبحانه - لم يزل باقيا ، فلم يتجدد له البقاء ، والفناء المتعلق بالمخلوق فناؤهم في شهود المشاهد ، ومحو رسومهم من قلبه بالكلية ، لا فناؤهم في الخارج .

وحاصل ذلك : أن يفنى من قلبك إرادة السوى : وشهوده والالتفات إليه ، ويبقى فيه إرادة الحق وحده ، وشهوده والالتفات بالكلية إليه ، والإقبال بجمعيتك عليه ، فحول هذا يدندن العارفون ، وإليه يشمر السالكون ، وإن وسعوا له العبارات ، وصرفوا إليه القول ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية