الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ومنها أن كفارة جزاء الصيد على التخيير ، كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو مذهب جماعة من التابعين مثل : عطاء ، والحسن ، وإبراهيم وهو قول أصحابنا ، وعن ابن عباس رواية أخرى أنه على ترتيب الهدي ، ثم الإطعام ، ثم الصيام حتى لو وجد الهدي لا يجوز الطعام .

                                                                                                                                ولو وجد الهدي ، أو الطعام لا يجوز الصيام كما في كفارة الظهار والإفطار أنها على الترتيب دون التخيير .

                                                                                                                                واحتج من اعتبر الترتيب بما روي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حكموا في الضبع بشاة ، ولم يذكروا غيره ، فدل أن الواجب على الترتيب ، ولنا أن الله تعالى ذكر حرف أو في ابتداء الإيجاب ، وحرف أو إذا ذكر في ابتداء الإيجاب يراد به التخيير لا الترتيب ، كما في قوله عز وجل في كفارة اليمين : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } وقوله تعالى في كفارة الحلق : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وغير ذلك ، هذا هو الحقيقة ، إلا في موضع قام الدليل بخلافها كما في آية المحاربين أنه ذكر فيها أو على إرادة الواو ، من ادعى خلاف الحقيقة ههنا فعليه الدليل ثم إذا اختار الهدي فإن بلغت قيمة الصيد بدنة نحرها ، وإن لم تبلغ بدنة وبلغت بقرة ذبحها ، وإن لم تبلغ بقرة وبلغت شاة ذبحها ، وإن اشترى بقيمة الصيد إذا بلغت بدنة أو بقرة سبع شياه وذبحها أجزأه ، فإن اختار شراء الهدي وفضل من قيمة الصيد ، فإن بلغ هديين أو أكثر اشترى ، وإن كان لا يبلغ هديا فهو بالخيار ، إن شاء صرف الفاضل إلى الطعام ، وإن شاء صام كما في صيد الصغير الذي لا تبلغ قيمته هديا ، وقد اختلف في السن الذي يجوز في جزاء الصيد .

                                                                                                                                قال أبو حنيفة : " لا يجوز إلا ما يجوز في الأضحية ، وهدي المتعة ، والقران والإحصار " وقال أبو يوسف ومحمد : " تجوز الجفرة والعناق على قدر الصيد " واحتجا بما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في اليربوع جفرة ، وفي الأرنب عناقا ، ولأبي حنيفة أن إطلاق الهدي ينصرف إلى ما ينصرف إليه سائر الهدايا المطلقة في القرآن ، فلا يجوز دون السن الذي يجزي في سائر الهدايا ، وما روي عن جماعة من الصحابة حكاية حال لا عموم له ، فيحمل على أنه كان على طريق القيمة ، على أن ابن عباس رضي الله عنه يخالفهم ، فلا يقبل قول بعضهم على بعض إلا عند قيام دليل الترجيح ، ثم اسم الهدي يقع على الإبل والبقر والغنم على ما بينا فيما تقدم ، ولا يجوز ذبح الهدي إلا في الحرم لقوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } ولو جاز ذبحه في غير الحرم لم يكن لذكر بلوغه الكعبة معنى .

                                                                                                                                وليس المراد منه بلوغ عين الكعبة بل بلوغ قربها ، وهو الحرم ، ودلت الآية الكريمة على أن من حلف لا يمر على باب الكعبة أو المسجد الحرام ، فمر بقرب بابه حنث وهو كقوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والمراد منه الحرم ; لأنهم منعوا بهذه الآية الكريمة عن دخول الحرم ، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : الحرم كله مسجد ; ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان الهدايا أي : ينقل إليها .

                                                                                                                                ومكان الهدايا الحرم لقوله تعالى : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ، والمراد منه الحرم .

                                                                                                                                وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { منى كلها منحر ، وفجاج مكة كلها منحر } ولو ذبح في الحل لا يسقط عنه الجزاء بالذبح إلا أن يتصدق بلحمه على الفقراء ، على كل فقير قيمة نصف صاع من بر فيجزئه على طريق البدل عن الطعام ، وإذا ذبح الهدي في الحرم سقط الجزاء عنه بنفس الذبح ، حتى لو هلك أو سرق أو ضاع بوجه من الوجوه خرج عن العهدة ; لأن الواجب هو إراقة الدم ، وإن اختار الطعام اشترى بقيمة الصيد طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من بر ولا يجزيه أقل من ذلك ، كما في كفارة اليمين وفدية الأذى ، ويجوز الإطعام في الأماكن كلها عندنا .

                                                                                                                                وعند الشافعي لا يجوز إلا في الحرم ، كما لا يجوز الذبح إلا في الحرم توسعة على أهل الحرم ، ولنا أن قوله تعالى { : أو كفارة طعام مساكين } مطلق عن المكان وقياس الطعام على الذبح بمعنى التوسعة على أهل الحرم قد أبطلناه فيما تقدم ; ولأن الإراقة لم تعقل قربة بنفسها ، وإنما عرفت قربة بالشرع ، والشرع ورد بها في مكان مخصوص أو زمان مخصوص ، فيتبع مورد الشرع فيتقيد كونها قربة بالمكان الذي ورد الشرع بكونها قربة فيه وهو الحرم فأما الإطعام فيعقل قربة بنفسه ; لأنه من باب الإحسان إلى المحتاجين فلا يتقيد كونه قربة بمكان ، كما لا يتقيد بزمان ، وتجوز فيه الإباحة والتمليك لما نذكره في كتاب الكفارات .

                                                                                                                                ولا [ ص: 201 ] يجوز للقاتل أن يأكل شيئا من لحم الهدي .

                                                                                                                                ولو أكل شيئا منه فعليه قيمة ما أكل ، ولا يجوز دفعه ودفع الطعام إلى ولده وولد ولده وإن سفلوا ، ولا إلى والده ووالد والده وإن علوا ، كما لا تجوز الزكاة ، ويجوز دفعه إلى أهل الذمة في قول أبي حنيفة ومحمد ، ولا يجوز في قول أبي يوسف كما في صدقة الفطر ، والصدقة المنذور بها على ما ذكرنا في كتاب الزكاة ، وإن اختار الصيام اشترى بقيمة الصيد طعاما وصام لكل نصف صاع من بر يوما عندنا ، وهو قول ابن عباس وجماعة من التابعين مثل : إبراهيم ، وعطاء ، ومجاهد .

                                                                                                                                وقال الشافعي : يصوم لكل مد يوما ، والصحيح قولنا لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " يصوم عن كل نصف صاع يوما " ومثل هذا لا يعرف بالاجتهاد ، فتعين السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو بالخيار : إن شاء تصدق به ، وإن شاء صام عنه يوما ; لأن صوم بعض يوم لا يجوز ، ويجوز الصوم في الأيام كلها بلا خلاف ، ويجوز متتابعا ومتفرقا لقوله تعالى { أو عدل ذلك صياما } مطلقا عن المكان وصفة التتابع والتفرق ، وسواء كان الصيد مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه عندنا بعد أن كان محرما ، والاصطياد على المحرم كالضبع ، والثعلب ، وسباع الطير ، وينظر إلى قيمته لو كان مأكول اللحم لعموم قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } غير أنه لا يجاوز به دما في ظاهر الرواية .

                                                                                                                                وذكر الكرخي أنه لا يبلغ دما بل ينقص من ذلك بخلاف مأكول اللحم ، فإنه تجب قيمته بالغة ما بلغت وإن بلغت قيمته هديين أو أكثر .

                                                                                                                                وقال زفر : " تجب قيمته بالغة ما بلغت كما في مأكول اللحم " وجه قوله : أن هذا المصيد مضمون بالقيمة ، والمضمون بالقيمة يعتبر كمال قيمته كالمأكول ، ولنا أن هذا المضمون إنما يجب بقتله من حيث إنه صيد ، ومن حيث إنه صيد لا تزيد قيمة لحمه على لحم الشاة بحال ، بل لحم الشاة يكون خيرا منه بكثير ، فلا يجاوز به دما ، بل ينقص منه كما ذكره الكرخي ; ولأنه جزاء وجب بإتلاف ما ليس بمال ، فلا يجاوز به دما كحلق الشعر وقص الأظفار ، وقد خرج الجواب عما ذكره زفر .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية