الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو قال لها إذا حضت وطهرت فأنت طالق لم يكن يمينا لأن الحالف ما جعل هذا الشرط علما لنزول الجزاء بل جعله إيقاع الطلاق على وجه السنة ، لأن مثل هذا الكلام يذكر عادة كأنه قال أنت طالق للسنة .

                                                                                                                                وكذا إذا قال إذا حضت حيضة فأنت طالق لأن الحيضة اسم للكامل فصار بمنزلة قوله إذا حضت وطهرت فأنت طالق وما زاد على هذا يعرف في الجامع ، ولو حلف لا يحلف فقال كل امرأة لي تدخل هذه الدار فهي طالق أو قال لامرأته كلما دخلت هذه الدار فأنت طالق يحنث لا لوجود تعليق الطلاق بالدخول لتعذر التعليق لانعدام حرفه بل لضرورة [ ص: 23 ] وجود الاتصاف على ما بينا والتعليق بالدخول ظرف في وجود الاتصاف فصار من حيث إنه تعلق به بواسطة الاتصاف شبيه الشرط لا أن يكون شرطا ثم في كلمة " كل " إذا دخلت مرة فطلقت ثم دخلت ثانيا لم تطلق ، وفي كلمة " كلما " تطلق في كل مرة تدخل ، وإنما كان كذلك لأن كلمة " كل " كلمة عموم وإحاطة لما دخلت عليه ، وفي المسألة الأولى دخلت في العين وهي المرأة لا في الفعل وهو الدخول ، فإذا دخلت مرة فقد انحلت اليمين فلا يحنث بدخولها ثانيا وأما في المسألة الثانية فإنما دخلت الكلمة على فعل الدخول لأن كلمة ما ترجع مع ما بعدها من الفعل مصدرا لغة ، يقال : بلغني ما قلت وأعجبني ما صنعت أي قولك وصنعك فصارت الكلمة داخلة على المصدر لا على من وقع عليه المصدر فيقتضي تعميم المصدر .

                                                                                                                                قال الله تعالى { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها } يتجدد التبدل عند تجدد النضج وإن كان المحل متحدا فصار الطلاق متعلقا بكل دخول وقد وجد الدخول في المرة الثانية والثالثة فطلقت ثلاثا فلو أنها تزوجت بزوج آخر بعد ذلك ثم تزوجها الأول فدخلت الدار لا يقع الطلاق عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر وسنذكر المسألة في كتاب الطلاق ولو عقد اليمين على التزوج بكلمة كلما فطلقت ثلاثا بكل تزوج ثم تزوجها بعد زوج آخر طلقت ; لأنه أضاف الطلاق إلى الملك ، والطلاق المضاف إلى الملك يتعلق بوجود الملك بخلاف الدخول ، ولو قال لامرأته أنت طالق لو دخلت الدار كان يمينا كما لو قال إن دخلت الدار وإذا دخلت لأن كلمة لو تذكر لتوقف المذكور على وجود ما دخلت عليه قال الله تعالى { ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } .

                                                                                                                                وقال - عز وجل - { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } فكانت في معنى الشرط لتوقف الجزاء على وجود الشرط وإن لم يكن شرطا حقيقة ، ولو قال أنت طالق ، لو حسن خلقك سوف أراجعك لم يكن يمينا ويقع الطلاق الساعة لأن " لو " ما دخلت على الطلاق وإنما دخلت على ترقب الرجعة فيقع الطلاق في الحال كما لو قال : أنت طالق ، إن حسن خلقك راجعتك ، وكذلك لو قال أنت طالق ، لو قدم أبوك راجعتك كما لو قال أنت طالق ، إن دخلت الدار راجعتك ، وهذا كله ليس بيمين بل هو عدة ، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال لامرأته أنت طالق لو دخلت الدار لطلقتك لم تطلق الساعة وإن دخلت الدار لم تطلق حتى يطلقها فإن لم يطلقها طلقت قبل موته أو موتها بلا فصل لأن هذا رجل حلف بطلاق امرأته لطلقها إذا دخلت الدار فإن لم يطلقها فهي طالق كأنه قال لأطلقنك إذا دخلت الدار فإن دخلت الدار فلم أطلقك فأنت طالق ولو قال ذلك لا تطلق للحال وإذا دخلت الدار ولم يطلقها حتى ماتت أو مات طلقت في آخر جزء من أجزاء حياته لفوات شرط البر في ذلك الوقت فيقع الطلاق ذلك الوقت كما لو قال لها أنت طالق إن لم آت البصرة فمات قبل أن يأتيها كذا هذا ، ونظيره إذا قال لامرأته عبدي حر لو دخلت الدار لأضربنك إذ معناه لأضربنك إذا دخلت الدار فإن دخلت ولم أضربك فعبدي حر - والله عز وجل الموفق - وروى المعلى عن محمد إذا قال لامرأته أنت طالق لولا دخولك الدار أو أنت طالق لولا مهرك علي أو أنت طالق لولا شرفك فهذا كله استثناء ولا يقع عليها الطلاق ومعناه أنه في معنى الاستثناء من حيث إنه يمنع وقوع الطلاق كالاستثناء يمنع ثبوت الحكم في المستثنى والأصل أن هذه الكلمة تستعمل في امتناع الشيء لوجود غيره قال الله - عز وجل - { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون } الآية .

                                                                                                                                وقال - سبحانه وتعالى - { ولولا رهطك لرجمناك } ويقال في العرف لولا المطر لجئتك فصار معنى هذا الكلام لولا دخولك الدار لطلقتك فلا يقع عليها الطلاق ، وكذلك لو قال طلقتك لولا دخولك الدار ، وكذلك لو قال لولا دخولك الدار قد طلقتك أمس وكذلك لو كان مكان " قد " لقد في هذه الوجوه كلها وكذلك لو قال أنت طالق أمس لولا دخولك الدار أي لولا دخولك الدار أمس لطلقتك .

                                                                                                                                وقال ابن سماعة سمعت أبا يوسف يقول في رجل قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فهذا يخبر أنه دخل الدار وأكد ذلك باليمين كأنه قال أنت طالق إن لم أكن دخلت الدار فإن كان لم يدخل طلقت وإن كان دخل لم تطلق لأن هذا ليس بشرط بل هو خبر عن الماضي أكده باليمين فإن كان كاذبا طلقت وإن كان صادقا لم تطلق ، ولو قال أنت طالق لا دخلت الدار فهذا مثل قوله أنت طالق إن [ ص: 24 ] دخلت الدار فلا تطلق حتى تدخل لأن لا حرف نفي أكده بالحلف فكأنه نفى دخولها وأكد ذلك بتعليق الطلاق بدخولها ولو قال أنت طالق إن دخلت الدار فإنها تطلق الساعة ; لأن قوله دخلت ليس بتعليق بل هو إخبار عن دخولها الدار كأنه جعل الدخول علة لكنه حذف حرف العلة وسواء كانت دخلت الدار أو لم تدخل يقع الطلاق لأن التعليل بعلة لم توجد لا يمنع وقوع الطلاق لأن العلة لم تصح وبقى الإيقاع صحيحا ، وروى ابن سماعة عن محمد في رجل قال لامرأته أنت طالق وإن دخلت الدار فهي طالق الساعة لما يذكر ولو قال أنت طالق الساعة وإن دخلت الدار كانت طالقا الساعة واحدة وإن دخلت الدار أخرى لأنه طلقها تطليقة الساعة وعطف الشرط عليها بلا جزاء فيضمن فيه الجزاء فيصير كأنه قال أنت طالق الساعة وطالق إن دخلت الدار فيقع في الحال واحدة وبعد الدخول أخرى .

                                                                                                                                ولو قال أنت طالق لدخولك الدار فهي طالق الساعة واحدة ; لأنه أوقع الطلاق ثم جعل الدخول المتقدم عليه علة لإيقاع الطلاق ، ومن أوقع الطلاق لعلة وقع ، وجدت العلة أو لم توجد لما بينا ، وكذلك لو قال أنت طالق لحيضتك لما قلنا ، ولو قال بحيضتك أو في حيضتك أو بدخولك الدار أو لدخولك الدار لم تطلق حتى تحيض أو تدخل لأن الباء حرف إلصاق فيقتضي إلصاق الطلاق بالحيضة والدخول فيتعلق بهما ، وفي كلمة ظرف دخلت على ما لا يصلح ظرفا فتجعل شرطا لمناسبة بينهما نذكرها في كتاب الطلاق وذكر محمد في الجامع : إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق تطلق في القضاء حين تكلمه به ، وجملة الكلام في هذا أن الأمر لا يخلو إما إن قدم الشرط أو إما إن أخر ، فإن قدم فهو على أربعة أوجه أما إن قال إن دخلت الدار فأنت طالق أو قال إن دخلت الدار أنت طالق أو قال إن دخلت الدار وأنت طالق أو قال وإن دخلت الدار أنت طالق ، وإن أخر الشرط فهو على ثلاثة أوجه أما إن قال أنت طالق إن دخلت الدار أو قال أنت طالق وإن دخلت الدار أو قال أنت طالق فإن دخلت الدار ، فإن قال إن دخلت الدار أنت طالق ، فالجواب ما ذكره محمد أنها تطلق في القضاء حين تكلم به لأنه ما علق الطلاق لانعدام حرف التعليق وهو حرف الفاء وكان تنجيزا لا تعليقا وإن عنى به التعليق دين فيما بينه وبين الله - عز وجل - لأنه عنى ما يحتمله كلامه نحو إضمار حرف الفاء في الجزاء .

                                                                                                                                قال الشاعر

                                                                                                                                من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان

                                                                                                                                أي فالله يشكرها ولا يدين في القضاء ; لأنه خلاف الظاهر وهذا جواب ظاهر الرواية ، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنها لا تطلق حتى تدخل الدار ووجهه أن يحذف حرف الجزاء تصحيحا للشرط إذ لو لم يحذف للغا ، ولو قال إن دخلت الدار وأنت طالق تطلق للحال لانعدام حرف التعليق والواو غير موضوعة للتعليق ولو عنى به التعليق لا يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى ما لا يحتمله كلامه لأن الواو لا تحتمل التعليق ولو أدرج فيه الفاء يصير تقدير كلامه أنت دخلت الدار فوأنت طالق وهذا لغو ولو قدم وأخر لا يستقيم أيضا لأنه يصير كأنه قال وأنت طالق إن دخلت الدار ، والواو لا يبتدأ بها ، وما يذكره أهل اللغة أن الواو قد تكون للاستئناف فمرادهم أن يبتدأ كلام بعد تقدم جملة مفيدة من غير أن تكون الجملة الثانية تشارك الأولى ، .

                                                                                                                                فأما ابتداء الكلام من غير أن يتقدمه شيء بالواو فغير موجود ولا جائز ، وإن قال وإن دخلت الدار أنت طالق طلقت للحال لانعدام دلالة التعليق وحرفه ، على أن الواو في مثل هذا تذكر للتحقيق كما يقال لا تسافرن وإن كان الطريق مخوفا ولو نوى التعليق لا يصدقه القاضي لأنه عدول عن الظاهر ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى ما يحتمله كلامه لأنه نوى إضمار حرف الفاء فصار كأنه قال وإن دخلت الدار فأنت طالق ، وتلغو الواو هذا إذا قدم الشرط .

                                                                                                                                فأما إذا أخر فقال أنت طالق إن دخلت الدار لا تطلق ما لم تدخل الدار لأنه عقب الإيجاب بما أخرجه عن كونه إيجابا إلى كونه يمينا فلا حاجة في مثل هذا إلى حرف التعليق ولو قال أنت طالق وإن دخلت الدار فهي طالق حين تكلم به لأن هذا يوجب التأكيد على ما بينا يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم { من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق } ولو قال : عنيت به [ ص: 25 ] التعليق لا يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لما ذكرنا أن الواو لا تحتمل التعليق .

                                                                                                                                وذكر الكرخي أنه يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأن الواو تجعل زائدة كما في قوله تعالى - { حتى إذا فتحت يأجوج } إلى قوله { واقترب الوعد } قيل معناه اقترب الوعد والواو زيادة لأن قوله اقترب جواب حتى إذا والجواب عن هذا أن الواو في كلام العرب لم تجئ زائدة في موضع تصلح للعطف أو للتحقيق فلا يمكن أن تجعل ههنا زائدة على أنا نقول إن كثيرا من محققي أهل اللغة جعل الواو زائدة في موضع ما وكانوا يقولون : تقدير الآية عندهم حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فتحت واقترب الوعد فكانت الواو للعطف على الجواب المضمر ، ولو قال أنت طالق فإن دخلت الدار ، لا رواية لهذا ، قالوا ولقائل أن يقول تطلق للحال لأن الفاء صارت فاصلة لأنها كانت لغوا واللغو من الكلام يجعل بمنزلة السكوت ، ولقائل أن يقول يتعلق الطلاق بالدخول لأن الفاء وإن كان مستغنى عنها في الحال إلا أنها في الجملة حرف تعليق فلا يجوز أن تجعل مانعة من التعليق موجبة للانفصال ، ولو قال أنت طالق إن ولم يذكر فعلا هل يتعلق أم لا ؟ ذكر هذه المسألة في ظاهر الرواية وذكر في النوادر على قول محمد يقع للحال لأنه لم يذكر ما يتعلق به وعلى قول أبي يوسف لا يقع الطلاق للحال لأنه لما ذكر حرف الشرط علم أنه لم يرد به التطليق وإنما أراد به اليمين والتعليق - والله عز وجل أعلم - .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية