الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما قوله : اختاري فالكلام فيه يقع فيما ذكرنا من المواضع في الأمر باليد ، والجواب فيه كالجواب في الأمر باليد في جميع ما وصفنا ; لأن كل واحدة منهما تمليك الطلاق من المرأة ، وتخييرها بين أن تختار نفسها أو زوجها لا يختلفان إلا في شيئين : أحدهما أن الزوج إذا نوى الثلاث في قوله : أمرك بيدك يصح ، وفي قوله اختاري لا يصح نية الثلاث والثاني أن في اختاري لا بد من ذكر النفس في أحد الكلامين إما في تفويض الزوج وإما في جواب المرأة بأن يقول لها : اختاري نفسك وتقول : اخترت أو يقول لها : اختاري فتقول اخترت نفسي أو ذكر الطلاق في كلام الزوج أو في كلام المرأة بأن يقول لها : اختاري فتقول : اخترت الطلاق أو ذكر ما يدل على الطلاق وهو تكرار التخيير من الزوج بأن يقول لها : اختاري اختاري فتقول : اخترت أو ذكر الاختيار في كلام الزوج أو في كلام المرأة بأن يقول لها الزوج : اختاري اختيارة ، فتقول المرأة : اخترت اختيارة ، وإنما كان كذلك ; لأن القياس في قوله : اختاري أن لا يقع به شيء وإن اختارت ; لأنه ليس من ألفاظ الطلاق لغة .

                                                                                                                                ألا ترى أن الزوج لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ ؟ فإن من قال لامرأته : اخترت نفسي لا تطلق فإذا لم يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ بنفسه فكيف يملك تفويضه إلى غيره إلا أنه جعل من ألفاظ الطلاق شرعا بالكتاب والسنة والإجماع

                                                                                                                                أما الكتاب فقوله تعالى { : يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } إلى قوله { : أجرا عظيما } أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه بين اختيار الفراق والبقاء على النكاح ، والنبي صلى الله عليه وسلم خيرهن على ذلك ، ولو لم تقع الفرقة به لم يكن للأمر بالتخيير معنى وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك ، قالت : وقد علم الله تعالى أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه قالت فقرأ { : يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } إلى قوله : { أجرا عظيما } فقلت أفي هذا أستأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة وفي بعض الروايات فقالت : بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة } وفعل سائر أزواجه مثل ما فعلت فدل أنه يوجب اختيار التفريق والبقاء على النكاح .

                                                                                                                                وأما الإجماع فإنه روي عن جماعة من الصحابة مثل عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم أن المخيرة إذا اختارت نفسها في مجلسها وقع الطلاق وكذا شبهوا أيضا هذا الخيار بالخيارات الطارئة على النكاح وهو خيار المعتقة وامرأة العنين وتقع الفرقة بذلك الخيار ، فكذا بهذا وكذا اختلفوا في كيفية الواقع على ما نذكر وذلك دليل أصل الوقوع إذ الكيفية من باب الصفة ، والصفة تستدعي [ ص: 119 ] وجود الموصوف فثبت كون هذا اللفظ من ألفاظ الطلاق بالشرع فيتبع مورد الشرع ، والشرع ورد به مع قرينة الفراق نصا أو دلالة أو قرينة النفس فإن اختيار الفراق مضمر في قوله تعالى { : إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } بدليل ما يقابله وهو قوله : { وإن كنتن تردن الله ورسوله } فدل على إضمار اختيار الفراق كأنه قال { : إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } مع اختيار فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك تخييرا لهن بين أن يخترن الحياة الدنيا وزينتها مع اختيار فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يخترن الله ورسوله والدار الآخرة فكن مختارات للطلاق لو اخترن الدنيا أو كان اختيارهن الدنيا وزنيتها اختيارا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن معه الدنيا وزينتها .

                                                                                                                                والصحابة رضي الله عنهم جعلوا للمخيرة المجلس ، وقالوا : إذا اختارت نفسها في مجلسها وقع الطلاق عليها فهذا مورد الشرع في هذا اللفظ فيقتصر حكمه على مورد الشرع فإذا قال لها : اختاري فقالت : اخترت لا يقع به شيء ; لأنه ليس في معنى مورد الشرع فيبقى الأمر فيه على أصل القياس فلا يصلح جوابا ولأن قوله : اختاري معناه اختاري إياي أو نفسك فإذا قالت : اخترت فلم تأت بالجواب ; لأنها لم تختر نفسها ولا زوجها لم يقع فيه شيء وإذا قال : لها اختاري نفسك فقالت : اخترت فهذا جواب ; لأنها أخرجته مخرج الجواب كقوله اختاري نفسك فينصرف إليها كأنها قالت اخترت نفسي .

                                                                                                                                وكذا إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي لما ذكرنا أن معنى قوله اختاري أي اختاري إياي أو نفسك وقد اختارت نفسها فقد أتت بالجواب .

                                                                                                                                وكذا لو قالت : أختار نفسي يكون جوابا استحسانا والقياس أن لا يكون جوابا ; لأن قولها أختار يحتمل الحال ويحتمل الاستقبال فلا يكون جوابا مع الاحتمال .

                                                                                                                                وجه الاستحسان أن صيغة أفعل موضوعة للحال ، وإنما تستعمل للاستقبال بقرينة السين وسوف على ما عرف في موضعه .

                                                                                                                                وكذا إذا قال اختاري اختاري فقالت : اخترت فيكون جوابا وإن لم يوجد ذكر النفس من الجانبين جميعا ; لأن تكرار الاختيار دليل إرادة اختيار الطلاق ; لأنه هو الذي يقبل التعدد كأنه قال : اختاري الطلاق فينصرف الجواب إليه .

                                                                                                                                وكذا إذا قال اختاري اختيارة ، فقالت : اخترت اختيارة فهو جواب ; لأن قوله : اختيارة يفيد معنيين : أحدهما تأكيد الأمر والثاني معنى التوحد والتفرد ، فالتقييد بما يوجب التفرد يدل على أنه أراد به التخيير فيما يقبل التعدد وهو الطلاق وإذا قال لها : اختاري الطلاق فقالت اخترت فهو جواب لأنه فوض إليها اختيار الطلاق نصا فينصرف الجواب إليه .

                                                                                                                                وكذا إذا قال لها اختاري فقالت : اخترت الطلاق ; لأن معنى قوله : اختاري أي اختاري إياي أو نفسك ، فإذا قالت : اخترت الطلاق فقد اختارت نفسها فكان جوابا ، ولو قال لها اختاري فقالت اخترت أبي وأمي أو أهلي والأزواج ، فالقياس أن لا يكون جوابا ولا يقع به شيء ، وفي الاستحسان يكون جوابا .

                                                                                                                                وجه القياس أنه ليس في لفظ الزوج ولا في لفظ المرأة ما يدل على اختيارها نفسها فلا يصلح جوابا .

                                                                                                                                وجه الاستحسان أن في لفظها ما يدل على الطلاق ; لأن المرأة بعد الطلاق تلحق بأبويها وأهلها وتختار الأزواج عادة ، فكان اختيارها هؤلاء دلالة على اختيارها الطلاق فكأنها قالت : اخترت الطلاق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية