الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                قدم الاستثناء فقال : إن شاء الله تعالى فأنت طالق فهو استثناء صحيح ; لأنه وصل الطلاق بالاستثناء بحرف الوصل ، وهو الفاء ; فيصح التعليق بمشيئة الله تعالى كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق .

                                                                                                                                وكذا لو قال : إن شاء الله تعالى ، وأنت طالق ; لأن الواو للجمع فتصير الجملة كلاما واحدا .

                                                                                                                                ولو قال : إن شاء الله تعالى أنت طالق جاز الاستثناء في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ولا يقع الطلاق .

                                                                                                                                وقال محمد : هو استثناء منقطع والطلاق واقع في القضاء ، ويدين فيما بينه ، وبين الله عز وجل أنه أراد به الاستثناء ( وجه ) قول محمد أن الجزاء إذا كان متأخرا عن الشرط لا بد من ذكر حرف الاتصال - وهو حرف الفاء - ليتصل الجزاء بالشرط ، وإذا لم يوجد لم يتصل فكان قوله : إن شاء الله تعالى استثناء منقطعا فلم يصح ، ويقع الطلاق كما إذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه لا يتعلق لعدم حرف التعليق - وهو حرف الفاء - فيبقى تنجيزا فيقع الطلاق كذا هذا ، ولهما أن الفاء يضمر في كلامه تصحيحا للاستثناء والإضمار في مثل هذا الكلام جائز قال الشاعر

                                                                                                                                من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان

                                                                                                                                أي : فالله يشكرها ، أو يجعل الكلام على التقديم والتأخير تصحيحا للاستثناء كأنه قال : أنت طالق إن شاء الله تعالى والتقديم والتأخير في الكلام جائز أيضا في اللغة .

                                                                                                                                وهذان الوجهان يصحان لتصحيح الاستثناء فيما بينه ، وبين الله تعالى لا في القضاء ; لأن كل واحد منهما خلاف الظاهر ، فلا يصدقه القاضي ألا ترى أنه إذا قال : إن دخلت الدار أنت طالق لا يتعلق ، وإن أمكن تصحيح التعليق بأحد هذين الطريقين ، لكن لما كان خلاف الظاهر لم يتعلق ، ولا يصدق أنه أراد به التعليق في القضاء ، وإنما يصدق فيما بينه ، وبين الله تعالى لا غير كذا هذا ( ووجه ) الفرق بين المسألتين أن الحاجة إلى ذكر حرف الفاء في التعليق بسائر الشروط - إذا كان الجزاء متأخرا عن الشرط في الملك - ليتصل الجزاء بالشرط فيوجد عند وجود الشرط ; لأنه شرط يمكن الوقوف عليه والعلم به على تقدير وجوده ، فلا بد من وصل الجزاء بالشرط بحرف الوصل بخلاف التعليق بمشيئة الله تعالى ، ووقوع هذا الطلاق مما لا سبيل لنا إلى الوقوف عليه رأسا حتى تقع الحاجة إلى وصل الجزاء به ليوجد عند وجوده فكان تعطيلا في علمنا ، فلا حاجة إلى ذكر حرف الوصل قبل هذا الشرط والدليل على التفرقة بين الشرطين أنه إذا قال : إن شاء الله تعالى ، وأنت طالق ، يصح الاستثناء ، ولو قال : إن دخلت الدار ، وأنت طالق لا يصح التعليق ، ويقع الطلاق للحال ، ولو قال : عنيت به التعليق لا يصدق قضاء ، ولا ديانة لما ذكرنا كذا هذا ، هذا كله إذا علق الطلاق بمشيئة الله تعالى .

                                                                                                                                فأما إذا علق الطلاق بمشيئة غير الله فإن علق بمشيئة من يوقف على مشيئته من العباد بأن قال : إن شاء زيد فالطلاق موقوف على مشيئته في المجلس الذي يعلم فيه بالتعليق ; لأن هذا النوع من التعليق تمليك لما نذكر فيتقيد بالمجلس كسائر التمليكات ، وإن علقه بمشيئة من لا يوقف على مشيئته نحو أن يقول : إن شاء جبريل أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فهو بمنزلة التعليق بمشيئة الله تعالى ; لأنه لا يوقف على مشيئة هؤلاء كما [ ص: 160 ] لا يوقف على مشيئة الله عز وجل فصار كأنه قال : إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                ولو جمع بين مشيئة الله تعالى وبين مشيئة العباد فقال : إن شاء الله تعالى ، وشاء زيد فشاء زيد لم يقع الطلاق ; لأنه علقه بشرطين لا يعلم وجود أحدهما والمعلق بشرطين لا ينزل عند وجود أحدهما ، كما لو قال إن شاء زيد ، وعمر فشاء أحدهما والله الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية